الفضل هو الإكرام، والله - عز وجل - عَلَّقَ دخول الجنة بالعمل الصالح {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[النحل:٣٢] ، وعَلَّقَ دخول النار بالعمل السيئ وبالكسب السيئ {جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ}[فصلت:٢٨] ، ونحو ذلك من الآيات، وهذه الباء في المقامين هي باء السبب فإنَّ الله - عز وجل - جعل الأعمال الصالحة وأعظمها التوحيد سبباً في دخول الجنة، وجعل الأعمال السيئة وأعظمها الشرك بالله سبباً لدخول النار.
ولكن هذا السبب ليس كافياً في تحقيق المراد؛ بل لا أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله - عز وجل -، لهذا صح عنه صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قال «لن يُدْخِلَ أحدكم عمله الجنة» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضلا»(١) ، فدلّ على أنَّ أصل دخول الجنة برحمة الله وفضله، وذلك لأنَّ:
- الفضل هنا هو الامتنان، الفضل هنا هو الإعطاء والإكرام، والأعمال وإنْ كان للعبد فيها أجور فلو قوبِلَتْ بالنعم لصارت القسمة أو لصار الشأن واضحاً في أنَّ العبد قوبلت أعماله بالنِّعَمْ التي كرّمه الله - عز وجل - بها.
- وأيضاً لو نظرت إلى أنَّ العمل الصالح أصلاً ما كان من العبد إلا بإعانة وتوفيق من الله - عز وجل -، فأصلاً نشوء العمل الصالح هو بفضل من الله وهدى من الله وإعانة وتوفيق فما يكون نتيجة فلابد أنَّهُ فضل أيضاً من العدل معناه أن يُعَامَل المرء بما يستحقه دون تَفُضُّلٍ عليه، يعني أن يُنظَرَ ويُنَاقَشْ الحساب ويُعْطَى ما يستحق.
وأهل النار دَخَلُوا النار بما يستحقون عدلاً مِنَ الله - عز وجل -؛ لأنَّهُ سبحانه لِمَا عَلِمَ بما في صدورهم لم يُعِنْهُمْ إعانةً خاصة ولم يوفقهم للعمل الصالح؛ بل خذلهم يعني لم يوفقهم، ترك إعانتهم على أنفسهم، فوُكِلُوا إلى أنفسهم، وهذا عَدْلٌ أن تَعْمَلَ بما لديك، وبما عندك من الاستعدادات والآلات إلى آخره.
ولهذا قال الله - عز وجل - في بيان مِنَّتِهِ لأهل الإيمان {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ}[الحجرات:٧] ، فدلّ على أنَّ الله - عز وجل - مَنَّ على هؤلاء بشيء، ولم يتفضّل على أولئك بل عاملهم بالعدل.
وذلك بسبب أنَّ هؤلاء في قلوبهم الخير وهم يريدونه وأقبلوا عليه، وأولئك لا يريدون الخير ولا يحبون سماعه ولم يريدوا الإهتداء أصلاً، فعاملهم الله - عز وجل - بعدله، قال - عز وجل - {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة:٦-٧] الآية.
فقوله {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني أنَّ الكفر وُجِدَ منهم، الكفر أصلاً في قلوبهم، ولهذا قال في آية النساء {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا}[النساء:١٣٧] ، {لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (١٦٨) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [النساء:١٦٨-١٦٩] الآية، فَدَلَّ هذا على أنَّ المعاملة بالعدل أن يُوكَلَ إلى نفسه، وهو أصلاً لم يُعَنْ ويُتَفَضَّلْ عليه لأنَّهُ لم يسع إلى الخير، لم يُوَفَّقْ لأنه لم يسعَ، وفي قلبه حب للشر ونوع بغض للخير، فلذلك لم يُعِنْهُ الله - عز وجل - على نفسه.