للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[المسألة الأولى] :

تفصيل الكلام على مراتب القَدَرْ، هنا لم يُنَصَّ عليه، والشارح أيضاً لم يتعرض له في هذا الموطن وتفصيله أنَّ الإيمان بالقدر يشمل الإيمان بمرتبتين:

١- المرتبة الأولى: سابقة لوقوع الواقعة أو لوقوع المُقَدَّرْ.

وهذا الإيمان السابق يشمل درجتين:

- الدرجة الأولى: الإيمان بعلم الله - عز وجل - بالأشياء قبل وقوعها عِلْمًا كُلِّيَاً وعلما جُزْئِيَّاً؛ يعني عِلْمَاً منه - عز وجل - بالكُلِّيَات وبالجزئيات، وعِلْمُهُ سبحانه وتعالى بهذه الأشياء أوَّلْ كصفاته - عز وجل -.

- الدرجة الثانية: وهو الإيمان بكتابة الله - عز وجل - للأشياء قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة كما جاء في الحديث الذي في الصحيح «قَدَّرَ الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء» (١)

(قدر الله مقادير الخلائق) يعني كَتَبَها في اللوح المحفوظ قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، أما مرتبة العلم فهي سابقة فعلمه - عز وجل - بالأشياء أَوَّلْ لا حدود له.

٢- المرتبة الثانية: إيمانٌ بالقدر إذا وقع المُقَدَّرْ.

وهذا يشمل درجتين أيضاً:

- الدرجة الأولى: أن يعلم العبد أنَّ مشيئته في إحداث الأشياء هي تَبَعٌ لمشيئة الله - عز وجل -، وأنَّ مشيئة الله نافذة ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن كما قال - عز وجل - {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:٢٩] ، وقال - عز وجل - {وَمَن يَشَإِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:٣٩] ، وقال - عز وجل - {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (٣٠) يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإنسان:٣٠-٣١] .

- الدرجة الثانية: هو أنَّهُ لا يقع شيء مما يقع إلا والله - عز وجل - هو الذي قضاه، وهو الذي خَلَقَ هذا الفعل، فالله - عز وجل - هو الخالق لكل شيء، وفي ضمن ذلك حركات العبد وأفعال العباد كما قال سبحانه {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الجاثية:٩٦] ، على نحو ما فصَّلْنَا في دلالة الآية.

والقضاء والقدر لفظان أتيا في الكتاب والسنة، والعلماء تَكَلَّمُوا في معنى القضاء والقدر والصلة بين هذا وهذا.

والتحقيق في ذلك أنَّ القَدَرَ هو ما يسبق وقوع المُقَدَّر، فإذا وَقَعَ المُقَدَّرْ صار قَضَاءً.

قُضِيَ يعني انتهى، ومادة قَضَى في اللغة تدور حول هذا.

فيُقَال قَضَى القاضي بكذا إذا أَنْفَذَ حكمه وانتهى، وقال - عز وجل - {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ} [فصلت:١٢] ؛ يعني أَنْهَاهُنَّ بخلقهن سبع سماوات، وقال - عز وجل - {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه:٧٢] يعني احكم بما تحكم به حتى يكون قضاءً، وقال {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ} [سبإ:١٤] .

فالقضاء يُطْلَقْ بمعنى إنفاذ المقَدر، فإذا وَقَعَ المُقَدَّرْ سُمِيَّ قَضَاءً.

وهذا نعني به القضاء الكوني؛ لأنَّ القضاء في النصوص يكون قضاءً كونياً ويكون قضاءً شرعياً.

أما القضاء الكوني فهو على نحو ما مر.

وأما القضاء الشرعي فمعناه أَمَرَ الله ووَصَّى كقوله {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء:٢٣] ، يعني أمر ربك ووَصَّى أن لا تعبدوا إلا إياه.

ويأتي القضاء في معنىً ثالث إذا عُدِّيَ بحرف (إلى) بمعنى أوحينا وأعْلَمْنَا.

تقول قَضَيْتُ إليه أن يفعَلَ كذا يعني أخبرته أعلمته ولا يعني معنى الإنفاذ كما قال - عز وجل - {وَقَضَيْنَا إِلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ} [الإسراء:٤] وكما في قوله - عز وجل - في آخر سورة الحجر {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاَءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} [الحجر:٦٦] .

{وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ} يعني أوحينا ذلك الأمر، فهذا بابٌ آخر غير الباب الذي نتتكلم عنه.


(١) سبق ذكره (٦١)

<<  <   >  >>