للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[المسألة الخامسة] :

قوله (نَرْجُو لِلْمُحْسِنِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ) .

قوله (لِلْمُحْسِنِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) هذا على مورِدْ التقسيم من أنَّ أهل الإيمان منهم المحسن ومنهم المسيء.

وليس شرطاً في رجاء العفو أن يكون من أهل الإحسان، وإنما المؤمن إما أن يكون محسناً وإما أن يكون مسيئاً.

- والمحسن هو من كان من المقتصدين أو من السابقين بالخيرات؛ لأنَّ أهل الإيمان ثلاث مراتب:

- الظالم لنفسه.

- والمقتصد.

- والسابق بالخيرات.

كما دلت عليهم آية فاطر {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:٣٢] .

والمحسن من المؤمنين أو المسيء من المؤمنين نرجو أن يعفو الله - عز وجل - عنهم ونخاف على المسيء منهم.

وعفو الرحمن - عز وجل - عن العبد وعدم مؤاخذته بفعله هذا قد يكون:

١- مِنَّةً وتَكَرُّمَاً منه - عز وجل - في غير الشرك به سبحانه وتعالى، ومعنى مِنَّةْ أي يَمُنُّ على من يشاء، يعني ابتداءً منه سبحانه وتعالى بدون أن يفعل العبد سبباً يُحَصِّلُ به ذلك

٢- وقد يكون بسبب.

@ فأما ما كان مِنْهُ مِنَّةً وتَكَرُّمَاً فالله - عز وجل - وَعَدْ بل تَوَعَّدْ أن لا يغفر الشرك به فقال {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} قال {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (١) فما دون الشرك يغفره سبحانه لمن يشاء مِنَّةً وتكرماً منه - عز وجل -.

@ وأما ما كان بسبب فالعلماء نظروا فيما جاء فيه الدليل من الكتاب والسنة في الأسباب التي تكون رافِعَةً لأثر الذّنب؛ لأنَّ الذنب إذا وقع من العبد فلابد من حصول الجزاء عليه، قال - عز وجل - {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:١٢٣] .

ولمَّا نَزَلَتْ هذه الآية شق ذلك على المسلمين مشقة عظيمة، فعرف ذلك منهم صلى الله عليه وسلم فخرج عليهم وقال «سددوا وقاربوا فما يصيب المسلم» أو كما جاء في الحديث «فما يصيب المسلم من مصيبة كانت كفارة له حتى في النكبة يُنْكَبُها وحتى الشوكة يشاكها» (٢) رواه مسلم في الصحيح، فقول الله - عز وجل - {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} دلَّ على أنَّ هناك ما يُكَفِّرُ الله به هذا السوء الذي حصل من العبد وأنه لا يُجَازَى به بل يُرْفَعْ الجزاء بسبب من الأسباب.

وقال سبحانه {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:٣٠] ، يعني ما أصاب العبد من مصيبة في دنياه فهو بسبب ذنْبٍ عمله فتكون كفارةً له ويعفو الله - عز وجل - عن كثيرٍ من الذنوب التي حصلت من العبد.

إذا تبين ذلك فالأسباب هذه التي يُكَفِّرُ الله - عز وجل - بها الخطايا أو يمحو بها أثر السيئات ويرفع بها أثر الإساءة على ثلاثة أقسام:

- القسم الأول: أسباب يفعلها العبد.

- القسم الثاني: أسباب من المؤمنين للواحد منهم.

- القسم الثالث: أسباب من الله - عز وجل - ابتداءً منه سبحانه وتعالى.

@ فالقسم الأول أسباب يفْعَلُها العبد:

وهو ثلاثة أنواع:

& النوع الأول التوبة:

والتوبة مأمورٌ بها إجمالا وتفصيلاً قال - عز وجل - {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم:٨] ، هذا إجمالاً، كل مؤمن حتى الصالح حتى الأنبياء مأمورون بالتوبة، كان صلى الله عليه وسلم يقول «إني ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة» (٣) وكان يُحْسَبُ له صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد يتوب إلى - عز وجل - مائة مرة، وقال سبحانه {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:٣١] .

فالتوبة مأمورٌ بها سواء كان العبد مُسَدَّدَاً أو كان دون ذلك.

فأعظم الأسباب التي يفعلها العبد لمحو السيئات عنه التوبة، فمن فَعَلَ سيئة مهما كانت حتى الكفر والشرك فإنَّ الله - عز وجل - يمحو أثره بالتوبة إليه سبحانه وتعالى، قال - عز وجل - بعد أن ذَكَرَ أصناف الكبائر في سورة الفرقان {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (٧٠) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان:٧٠-٧١] .

والتوبة معناها -ضابط التوبة-: تاب بمعنى رجع.

وهناك ثلاثة ألفاظ متقاربة لكن المعنى يختلف بدقة وهي:

١ - آبَ.

٢ - تابَ

٣ - ثابَ

وهي تشترك في الأصل من أنها فيها رجوع.

آبَ: يعني رَجَعْ، آيبون تائبون تشمل هذه وهذه، فآب رجع، أو أَوَّابْ كثير الرجوع.


(١) النساء:٣٨، ١١٦.
(٢) مسلم (٦٧٣٤) / الترمذي (٣٠٣٨)
(٣) مسلم (٧٠٣٣) / أبو داود (١٥١٥)

<<  <   >  >>