للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[المسألة الثالثة] :

قوله (إِلَّا مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ السَّيْفُ.) يعني من الأمة.

ووجوب السيف (وَجَبَ عَلَيْهِ السَّيْفُ) هذا لمن بيده السيف وهو ولي الأمر المسلم.

فولي الأمر هو الذي بيده أن يسفك الدم تحقيقاً للشرع لا بمحض الهوى، فيقتل تحقيقاً للشرع لا بمحض الهوى، ويحكم ويأمر بالقتال أو يأمر بقتل معين أو بقتال طائفة ونحو ذلك، فهو الذي بيده السيف وهو الذي له هذا الحكم.

وليس لآحاد الناس من العلماء أو من العامة هذا الأمر، يعني أن يَقْتُلُوا؛ لأنَّ السيف ليس بيدهم وإنما السيف بيد ولي الأمر الذي بيده الحَلْ والأمر والنهي وبيده الأمور في القتال وفي إقامة الحدود وأشباهها.

* وهذا يبين أنَّ المسألة التي تظهر في بعض الأمكنة وهي مسألة الاغتيالات؛ أن يُغْتَالَ من ظاهره الإسلام، أو من لم يَحْكُمْ عليه ولاة الأمر -من العلماء في الأمر الديني والحكام والأمراء في الأمر العام- من لم يحكموا عليه بأنه يقتل، فلا يحل لأحد أن يتجرأ على قتله أو على اغتياله.

والنبي صلى الله عليه وسلم إنما أباح اغتيال كعب بن الأشرف في القصة المعروفة لمصلحة عامة ولأنه هو الإمام.

وإلا فالأصل العام بالشريعة أنَّ هذا الأمر للإمام أولاً ثُمَّ أنَّه لا يُؤَاخَذُ أحد إلا بظهور ذلك منه وحُكْمٍ شرعي عليه.

فمن ظَهَرَتْ منه زندقة أو كفر أو رِدَّةْ ولم يَحْكُمْ عليه ولي الأمر بذلك فلا يحل لأحد أن ينتهك دمه وأن يسفك دمه؛ لأنَّهُ حينئذ له حكم الزنادقة وله حكم المنافقين، والنبي صلى الله عليه وسلم سيرته مع المنافقين ظاهرة، والصحابة ربما عَلِمُوا أنَّ فلاناً منافق ولم يتجرؤوا على قتله حتى يستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستأذنوه في قتل عدد فلم يأذن لهم، قال لهم مرة «لا، لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه» وأولئك النفر الذي استهزؤوا ونزل فيهم قول الله - عز وجل - {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (٦٥) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:٦٥-٦٦] ، والقصة المعروفة في سبب نزولها ولم يَرِد أن محمداً صلى الله عليه وسلم قتلهم.

ولمَّا حصلت القصة المعروفة قالوا له يا رسول الله: أنقتل هؤلاء؟

قال «لا، لا يُتحَدَّثْ أن محمدا يقتل أصحابه» (١) .

وكانوا يستأذنونه، فقال عمر لمَّا حَصَلَ من حاطب رضي الله عنهم ما حصل قال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، وهذا استئذان من النبي صلى الله عليه وسلم.

فإذاً القاعدة الماضية والتي دلَّتْ عليها الأدلة وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة الصحابة، وكذلك ما قَرَّرَهُ الأئمة من أنَّ الحكم بقتل أحد أو تنفيذ ذلك ليس إلا لولي الأمر، وهذا فيه من المصالح العظيمة وتحقيق المقاصد الشرعية ما يجب معه الاعتناء بهذا الأصل، وأن لا يَدْخُلُ أحد من المسلمين في هذه التبعة العظيمة بقولٍ أو بفعل.

ولهذا جاء في الحديث وفي إسناده بحث لكن حسَّنَهُ عدد من أهل العلم رواه ابن ماجه وغيره «من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة لم يرح رائحة الجنة أو كان من أهل النار (٢) » وهذا فيه الإعانة على قتل مسلم بشطر كلمة، فكيف من يتكلم بلسانه ويُعين على قتل مسلم أو يُفتي بذلك، وهو ليس من ولاة الأمر من العلماء أو القضاة أو ممن جُعِلَ لهم ذلك.

فالواجب في هذا الأمر رعاية هذا الأصل العظيم، والسلامة في هذا الأصل، ولا يَتَجَرأَ أحد على هذا المقام؛ لأنَّ الأصل حُرْمَةْ دم من أَظْهَرَ الإسلام، ومن حصل منه ردة أو عُلِمَتْ منه زندقة أو نفاق فيوكل إلى ولي الأمر، ولا يجوز لآحاد الناس منهم أن يفتئتوا على ولي الأمر وأن يقْتُلُوا، ولو جاز ذلك لتسابق الصحابة رضوان الله عليهم على قتل المنافقين الذين علموا نفاقهم؛ بل لَقَتَلَهُم الرسول صلى الله عليه وسلم.

والمسألة منوطة بالمصلحة وبإذن الإمام سواءٌ من القتل الابتدائي ممن عُلِمَ نفاقه أو رِدَّتُهُ أو زندقته، أو في الاغتيال الذي فيه قتل دون رجوع إلى الإمام.

نكتفي بهذا القدر، ونقف عند قوله (وَلَا نَرَى الْخُرُوجَ عَلَى أَئِمَّتِنَا وَوُلَاةِ أُمُورِنَا وَإِنْ جَارُوا) .


(١) البخاري (٣٥١٨) / مسلم (٦٧٤٨)
(٢) ابن ماجه (٢٦٢٠)

<<  <   >  >>