وهذه المسألة من المسائل الغيبية؛ يعني أنَّ حقيقة الإسراء وحقيقة المعراج من الغيب الذي لم يُعلم إلا من جهته صلى الله عليه وسلم. يعني أنَّ الله - عز وجل - أسْرَى بِنَبِيِّهِ، ثم عَرَج به إلى السماء، فالعقل لا يدلّ على ذلك ولا يستلزمه، وإنما ذلك سُلِّمَ به وكان حقًّا من جهة أن الله - عز وجل - أخبر به في كتابه وأخبر به نبينا صلى الله عليه وسلم، فالإيمان به واجب، وهو حق لا مِرْية فيه. وثَمَّ كما سمعت ارتباط ما بين الإسراء والمعراج. والإسراء والمعراج معنيان مختلفان. - فالإسراء: هو المشي في الليل، سَرَى أي مشى في الليل، وأسرى أي مشى ليلاً. - والمعراج: فهو مِفْعَال من العروج، وهو اسمٌ للآلة التي عليها عُرِجَ به صلى الله عليه وسلم. والإسراء: هو الانتقال ليلا من مكة إلى بيت المقدس، وكان على دابة بين البغل وبين الحمار تسمى البُرَاق، والعروج إلى السماء فكان على آلة، على سُلَّمٍ خاص وهو المعراج. فإذن الإسراء اسم للفعل، والمعراج اسم للآلة التي عليها سار صلى الله عليه وسلم إلى السماء. إذا كان كذلك، فالإسراء وهو المشي ما بين مكة إلى بيت المقدس ليلاً في ساعات معدودة ثم الرجوع، هذا أمر غيبي عجيب، لهذا الإيمان به واجب بتفاصيله التي وردت، فيكون له أصل الكلام على الغيبيات. فما جاء فيه يُصدَّق دون تعرض للعقل فيه؛ يعني أنَّ العقل لا مَسْرَح له في الأمور الغيبية فكل ما جاء فيه حق دون تفكير فيه من جهة العقل؛ هل هذا يمكن عقلا أو لا يمكن. كذلك المعراج وهو أبلغ في كونه غيبياً، فإن آلة العروج وذهاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماوات السبع يُستَفْتَحُ له من سماء على سماء إلى أن بلغ سدرة المنتهى إلى أن كلَّم الرحمن - جل جلاله -، هذا أمر غيبي،،ففي أصله وفي تفاصيله مندرِج عليه قاعدة الغيبيات عند أهل السنة والجماعة. إذاً فهذا الذي ذكره الطحاوي أصل في الإيمان بالإسراء والمعراج، وأنَّ الإسراء والمعراج أمران غيبيان، وإذا كان غيبيين فلا يُتعرَّضُ لهما ولا لما جرى فيهما بتأويل أو تحريف يخالف ظاهر ما دلت عليه النصوص. فالنص من الكتاب والسنة دلّ على أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أُسْرِيَ به ليلاً في وقتٍ قصيرٍ ما بين مكة إلى بيت المقدس. وأخبر صلى الله عليه وسلم أنَّ جبريل جاءه وهو مضطجع في الحطيم، فأخذه فشَقَّ صدره ما بين ثغرة نحره إلى شِعرته إلى أسفل بطنه، وكان أثر المَخيط يظهر في صدره صلى الله عليه وسلم، فلمَّا شقّه أخرج قلبه وجِيء بطست فيه الإيمان والحكمة، طست من ذهب، قال صلى الله عليه وسلم «فغُسِلَ قلبي به وحُشي إيمانا وحكمة» (١) ، وكان هذا لأجل أن يستعد صلى الله عليه وسلم لهذا الأمر الغريب؛ وهو أنه يقطع هذه المسافة الطويلة في الأرض في وقت وجيز ثم يُصْعَد به إلى السماء فيحتاج إلى قلب خاص. ومعلوم أنَّ الإنسان إذا خاف أو استغرب فَأَوَلُ ما يتأثّر قلبُه. فإذا كان قلبه لا يتأثّر من الاختلاف، فإنه يتحمل بدنه ذلك بما أعدَّ الله - عز وجل - له في ذلك. قال «ثم أخذني جبريل فإذا دابة بين البغل والحمار، فقال: أركب فركبت، ثم سرنا إلى أن وصلنا بيت المقدس» إلى آخر الحديث. فهذه الصفات وما جاء فيه مما حصل له في بيت المقدس من لقاء الأنبياء ومن صلاته فيه -يعني صلاته في بيت المقدس- ومن كونه صار إماما، واجتماع الأنبياء له، وكونه صلى الله عليه وسلم أمَّهُم كل هذا وما ثبت في الأحاديث الصحيحة من الأمور الغيبية التي تجري عليها قاعدة أهل السنة والجماعة في الأمور الغيبية بأنه: ١ - يُسَلَّمُ بها. ٢ - يُؤمَنُ بها. ٣ - ألا يُتعَرَض لها بتأويل يصرفها عن ظاهرها، أو بتحريف يصرفها عن حقائقها. فنؤمن بها على ما جاء، من جنس جميع الأمور الغيبية التي أخبرنا بها - عز وجل -، أو أخبرنا بها نبينا صلى الله عليه وسلم.
[قال (وَالْمِعْرَاجُ حَقٌّ، وَقَدْ أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَعُرِجَ بِشَخْصِهِ فِي الْيَقَظَةِ) .] (فِي الْيَقَظَةِ) يعني ليس في المنام. (وَعُرِجَ بِشَخْصِهِ) يعني بجسده يعني بروحه، فنفهم من قوله (وَعُرِجَ بِشَخْصِهِ) أنه عروج بالرّوح والجسد معاً. وقوله (فِي الْيَقَظَةِ) أنها ليست في المنام. وقوله (وَقَدْ أُسْرِيَ وَعُرِجَ) نفهم منه أنهما متلازمان كما قررتُ لك سالفا.
[قال (إِلَى السَّمَاءِ) ] والمقصود بـ (السَّمَاءِ) جنس السماء وهي السموات.
[قال (ثُمَّ إِلَى حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الْعُلَا) ] يعني مما فوق السماء السابعة.
[قال (وَأَكْرَمَهُ اللَّهُ بِمَا شَاءَ) ] يعني من تكليمه ومن أنه رأى صلى الله عليه وسلم أشياء لم يرها غيرُه صلى الله عليه وسلم وما حباه الله - عز وجل - به.
[قال (وَأَوْحَى إِلَيْهِ مَا أَوْحَى) ] في شأن الصلاة وفي غيره.
[ {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:١١] ) ] {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} هذه قد تُفهَم على أنَّهُ رَأَى رَبَّهُ بفؤاده، يعني من حيث صياغة المؤلف. وقد يُفْهَمْ أنه أراد الاستشهاد بالآية {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} يعني ما رآه في أثناء الوحي من الأنوار والآيات العظام.