للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[المسألة الثالثة] :

قوله (وَلَا يُطِيقُونَ إِلَّا مَا كَلَّفَهُمْ) هذه العبارة أدخَلَهَا هنا لأجل تتمة الكلام السّابق في أنَّ العبد لا يطيق أكثر مما أُمِرَ به.

وهو أراد بذلك أنَّ الأصل في الإنسان التَّعَبُّدْ وأنَّهُ عَبْدٌ لله - عز وجل -، وأنَّ الملائكة لمَّا كانت تطيق كذا وكذا من الأعمال والعبادات جعلهم الله - عز وجل - يقومون بذلك أمراً لا اختياراً، والإنسان بحكم أنَّهُ عَبْدْ لله - عز وجل -، ومربوب ومُكَلَّفْ، فإنه يجب عليه أن يُمْضِيَ عمره وجميع وقته في طاعة الله - عز وجل -.

فَنَظَرَ إلى هذا -يعني نَظَرَ إلى جانب العبودية- وقال: إنَّ العباد لا يطيقون إلا ما كَلَّفَهُمْ، ويعني به أصل التشريع وجملة الشريعة، في أنَّ الناس لا يطيقون أكثر من هذا في التَّعُبُّدْ.

وكأنَّهُ نظر إلى قصة فرض الصلاة أيضاً وما جاء من التردّد أو الحديث بين موسى عليه السلام وبين النبي صلى الله عليه وسلم حتى خُفِّفَتْ إلى خمس صلوات.

وكأنَّهُ نَظَرَ أيضاً إلى جهةٍ ثالثة وهي أنَّ (لَا يُطِيقُونَ) هنا بمعنى أنَّهُ سبحانه لم يجعل عليهم شيئاً في فعله بالنسبة لهم تكليف فوق ما كُلِّفُوا به.

يعني أنَّ نَفْسَ التشريع هو موافق لما كُلِّفُوا به من جهة الأصل العام.

فيتفق جهة الفرد مع جهة التشريع ويدخل في ذلك حينئذ معنى التوفيق.

وهذا التوجيه الذي ذكرته لك من باب حمل كلام الطحاوي رحمه الله على موافقة كلام أهل السنة والقُرب من كلامهم، وإلا ففي الحقيقة فإنَّ الكلام هذا مُشْكِلْ، وقد رَدَّ عليه جمعٌ من العلماء ومن الشُّرَاحْ.

ولهذا نقول: إنَّ هذا التخريج الذي ذَكَرْنَاه وهذا التوجيه من باب إحسان الظن وتوجيه كلام العلماء بما يتفق مع الأصول لا بما يخالفها ما وُجِدَ إلى ذلك سبيل.

وإلا فإنَّ العبارة ليست بصحيحة وهي موافقة لبعض كلام أهل البدع من القدرية ونحوهم؛ في:

- أنَّ العبد لا يَسَعُهُ ولا يَقْدِرُ إلا على ما كُلِّفَ به وأكثر من ذلك لا يستطيع.

- وأنه لا يطيق إلا ما كُلِّفْ ولو كُلِّفَ بأكثر لما استطاع.

وهذا بالنظر منهم إلا أنَّ الاستطاعة تكون مع الفعل، ولا يُدْخِلُونَ سلامة الآلات وما يكون قبل الفعل في ذلك كما فَصَّلْنَا لكم فيما سبق.

ولهذا نقول: إنَّ الأولى بل الصواب أن لا تُستعمل هذه الكلمة؛ لأنها مخالفة لما دلَّتْ عليه النصوص من الكتاب والسنة في أنَّ الله - عز وجل - خَفَّفَ عن العباد، فانظر مثلاً إلى الصيام في السّفر فإنه لو كُلِّفَ به العباد لأطاقوه ولكن فيه مشقة شديدة يَسَّرَ الله - عز وجل - وخَفَّفْ فقال - عز وجل - {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:١٨٥] ، وكذلك مسألة التيمم والتخفيفات الشرعية من قصر الصلاة ونحو ذلك، وقد قال - عز وجل - {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} [النساء:١٠١] ، والنبي صلى الله عليه وسلم قَصَرَ في الخوف وقَصَرَ في الأمن، ومعلوم أنَّ قَصْرَ الصلاة في الأمن كونه يصلي ركعتين لو كُلِّفْ فرضاً بأن يصلي أربع ركعات كل صلاة في وقتها كما في الحضر لكان في وسعه أن يعمل وفي طاقته أن يعمل؛ لكنه فيه مشقة عليه، لهذا خُفِّفَ عنه، وهو يطيق أكثر من قصر الصلاة، يطيق لو صَلَّى كل صلاةٍ في وقتها أربع ركعات؛ لكن فيه مشقة.

ولهذا النصوص الكثيرة التي في تخفيف العبادة وفي الرُّخَصْ وفي التيسير كلها تَرُدُّ هذه الجملة من كلامه؛ بل العبد في بعض الأحكام يطيق أكثر مما كَلَّفَه، صَلِّ قائما فإن لم تستطع فقاعداً، عدم الاستطاعة هنا لا تعني أنَّهُ إذا قام يَسْقُطْ وإلا يكون مستطيعاً بل إذا كان يُخْشَى عليه أن يزداد في مرضه أو يتعب أو قيامه يُذهب بخشوعه فإنَّه لأجل ما معه من المرض وعدم الاستطاعة النسبية فإنه يجلس، وهكذا.

فإذاً هذه الجملة (وَلَا يُطِيقُونَ إِلَّا مَا كَلَّفَهُمْ) ظاهرها غير صحيح، وإن كان إحسان الظن بالمؤلف رحمه الله يمكن معه أن تُحمَلَ بِتَكَلُّف على محملٍ صحيح.

<<  <   >  >>