للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

ذكرنا بعض المسائل التي تتعلق بمذهب أهل السنة والجماعة في باب القدر، وآخر ما تكلمنا عليه تفسير الكَسْبْ عند الناس ونجعلها مسألة مستقلة أحسن فنقول:

[المسألة السادسة] :

لفظ الكَسْبْ جاء في القرآن في ذِكْرِ ما للمكلف وما عليه، فقال سبحانه {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} (١) وقال - عز وجل - {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة:٢٢٥] ونحو ذلك من الآيات.

ولمَّا جاء لفظ الكسب في القرآن وفي السنة أيضاً جاء مذهب أهل السنة والجماعة بإثبات كَسْبْ المرء وتفسير الكَسْبْ بما دلت عليه النصوص وهو أنَّ كَسْبَ المرء هو عمله.

فالكسب هو العمل والفعل، فقوله سبحانه {لَهَا مَا كَسَبَتْ} يعني لها ما عملت، فالعمل هو الكَسْبْ، ودلّ على ذلك أنه - عز وجل - قال {وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} [النحل:١١١] ، وفي الآية الأخرى {مَا كَسَبَتْ} فدلّ على أنَّ الكَسْبْ هو العمل.

والناس أعني المذاهب الثلاثة المشهورة في باب القَدَرْ وهي مذهب الجبرية والقدرية وطريقة أهل السنة والحديث كلٌّ فسر الكَسْبْ على حسب معتقده:

١- مذهب القَدَرِيَّةْ:

فسَّرَ القدرية -وهم نُفاة القدر الذين يقولون: إنَّ العبد يخلق فعل نفسه وأنَّ الله - عز وجل - لا يخلق فعل العبد من المعتزلة ومن شابههم- قالوا: إنَّ معنى الكَسْبْ في هذه الآيات هو إيجاد العبد للفعل، وشَبَّهُوهُ بكسب التجارة فإنَّ كسب التجارة فعل، كما قال - عز وجل - {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [البقرة:٢٦٧] فما كَسَبَ الإنسان من التجارة أنفقوا من طيبات ما كسبتم، {يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة:٢٦٧] ، فَذَكَرْ الكسب في معرض التجارة فقالوا كذلك هو في فعله يكسب العمل الصالح كما يجتهد في كَسْبْ التجارة.

فإذاً جعلوا الكَسْبْ هو إيجاد العبد الفعل على مذهبهم في خلق أفعال العباد.

وذلك أنَّ لفظ الكَسْبْ فيه شيء من الاحتمال، ولهذا فسرته كل طائفة على مذهبها.

٢- مذهب الجبرية:

والجبرية -كما ذكرنا لكم طرفاً من مذهبهم في قول الأشاعرة والجهمية- الجبرية فَسَّرُوا الكَسْبْ بأشياء كثيرة وبعبارات متنوعة لا حاصل معها على التحقيق، وذكرت لكم قول الشاعر أو قول أحد العلماء:

مما يقال ولا حقيقة تحته معقولة تدنو لذي الأفهام

الكسب عند الأشعري والحال عند البهشمي وطفرة النظام

فحين اخترع الأشعري مذهبه الذي هو جَبْرٌ باطن لا جَبْراً ظاهرا، لما [.....] ووجد في لفظ الكَسْبْ في الكتاب والسنة مخرجاً له فقال الأعمال كسب.

كيف يتوافق هذا مع قوله في القَدَرْ؟

قال: الكَسْبْ عبارة عن تعلق القُدْرَةْ بالحال أو غير ذلك من التفاسير.

واختلف أصحابه في تفسير الكَسْبْ على هذا الاصطلاح الذي هو كسب الجبر.

كيف يكون للإنسان كسب وهو مجبور؟

اختلفوا في تفسير الكَسْبْ على أوجه كثيرة أكثر من عشرة أوجه، وكلها راجعة إلى نوع من التعلق ما بين القدرة والإرادة والعمل والتكليف، وهذا فيه صعوبة في الربط بينها.

ولذلك أهل العلم حتى الأشاعرة قال محققوهم: إنه لا حصيلة تحت هذه العبارة التي هي عبارة الكَسْبْ على خلاف معنى العمل.

٣ - مذهب أهل السنة والجماعة:

أما القول الثالث في الكَسْبْ فهو قول أهل العلم والسنة والحديث من الصحابة رضوان الله عليهم فمن بعدهم فإنهم قالوا إنَّ الكَسْبَ هو العمل وهو الفعل، والله - عز وجل - قال {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} ، وفَرَّقَ ما بين الكَسْبْ والاكتساب مع أنَّ كثيراً من أهل العلم يجعلون الكَسْبَ والاكتساب بمعنى واحد؛ لكن في الآية قال {لَهَا مَا كَسَبَتْ} يعني في الخير، {وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} فجعل الاكتساب فيه زيادة في المَبْنَى؛ لأنّ فيه نوع كُلْفَة، فالخير موافق للفطرة فَيَكْسَبُهُ الإنسان لموافقته لفطرته مع أنَّه تكليف، وأمّا الشر والرَّدَى والضلال فإنه مخالف لفطرته.

لذلك إتيان المحرمات وإتيان الموبقات ونحو ذلك على ما في الإنسان ربما من الشهوة لبعض ذلك لكن يحتاج معه إلى أن يُعْمِلَ نفسه، يعني أن يُتْعِبَ نفسه ويخالف فطرته في أن يأتي تلك الموبقات.

لذلك زاد المبنى ليدل على أنها فيها نوع كَلَفَة ومشقّة في ما يعمله المرء من الشر، قال {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} يعني من الشر.

فجعل أهل السنة الكسب بمعنى العمل.


(١) البقرة:٢٨١، آل عمران:١٦١.

<<  <   >  >>