للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[المسألة الأولى] :

أهل العدل وأهل الجَوْر متقابلان، كما أنَّ أهل الأمانة وأهل الخيانة متقابلان -يعني هؤلاء يقابلون هؤلاء، هؤلاء ضد هؤلاء، هذا صنف وهذا صنف-، ولا أعني بالتَّقَابُلْ والتضاد المصطلح الكلامي أو المنطقي فيه.

فمن هم أهل العدل، ومن هم أهل الجَوْر؟

العدل أَمَرَ الله - عز وجل - به أَمْرَاً مُطلَقَاً فقال سبحانه {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل:٩٠] ، وأقام السموات والأرض على العدل، ودينه وأحكامه كلها عدلٌ وخيرٌ للعباد في مآلهم وفي حاضرهم.

العدل الذي أمر الله - عز وجل - به أن يُعطَى كل ذي حق حقه، أن تُعْطِي الله - عز وجل - حقه الذي أمرك به، وأن تُعْطِي رسوله صلى الله عليه وسلم حَقَّهُ الذي أُمِرْتَ به، وأن تُعْطِي الصحابة حقهم الذي أُمِرْتَ به، وأن تُعْطِي المؤمنين حقهم الذي أُمِرْتَ به، وهكذا في سائر أحكام في الشريعة.

ولهذا قال بعض التابعين على هذه الآية {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} ، قال (أتت هذه الآية على جميع المأمورات) ؛ يعني في العلميات وفي العمليات؛ لأنَّ المأمور:

- إما أن يكون عَدْلَاً في العلم والعمل.

- وإما أن يكون فَضْلاً في العمليات والعبادات وأنواع التعامل.

يقابله أهل الجور وهم أهل الظلم، والجَورُ هو الحَيْفْ وهو بمعنى الظلم.

وأهل الظلم:

- تارَةً يكون ظلمهم في حق الله - عز وجل -.

- وتارَةً يكون ظلمهم في حق النبي صلى الله عليه وسلم.

- وتارَةً يكون ظلما في حق العباد أو في حق أنفسهم.

فإذاً هذه المَحَابْ؛ محبة أهل العدل والأمانة وبُغْضْ أهل الجور والخيانة هذه تَبَعْ لمحبة الله - عز وجل - ولبُغْضِه، وأهل العدل يُقَابِلُونَ أهل الجور بهذا المعنى.

إذا تبيَّنَ هذا فإنَّ المتقرر عند أهل السنة أنَّ الله - عز وجل - يُحِبُّ ويُبْغِضْ، وهما صفتان حقيقيتان على ما يليق بجلال الرب - عز وجل -، لا يماثل في محبته وبُغْضِهْ محبة العباد وبغضهم، تعالى ربنا عن ذلك وتقدّس.

والله - عز وجل - يُحِبُّ العبد لما فيه من الصفات الحسنة، صفات الإيمان والعدل والطاعة، ويُبْغِضُ العبد لما فيه من صفات الظلم والطغيان أو المعصية والمخالفة ونحو ذلك.

فإذاً قرَّرُوا أنَّهُ يجتمع في حق المعين في صفات الله - عز وجل - أنّ الله يُحِبُّ العبد من جهة ويبغضه من جهة.

وهذا يخالف قول المبتدعة الذين قالوا: المحبة والبغض شيءٌ واحد، فالله - عز وجل - يُحِبُّ العبد الكافر حال كفره إذا كان سيوافيه على الإيمان، ويُبْغِضُ العبد المؤمن الصالح حال إيمانه إذا كان سيوافيه على الكفر.

وهذا هو المسألة الموسومة بمسألة (الموافاة) عندهم، وهي مسألة المحبة والبغض عندهم أزلي، فالله يُحِبُّ من يُحِبْ مطلقاً ويُبْغِضُ من يبغض مطلقاً، والمحبة عندهم مؤولة بإرادة الخير، والبغض عندهم مُؤَوَلْ بإرادة الخذلان.

إذا تبيَّنَ ذلك فإنَّ المؤمن فيما يُحِبُّ من إخوانه المؤمنين يُحِبُّهُمْ بقدر ما معهم من الإيمان والعدل والأمانة، ويبغِضُ فيهم بقدر ما معهم من الجَوْر والظلم والخيانة.

فالمؤمن تَبَعٌ لمحبة الله - عز وجل - ليس عنده حبٌ كامل أو بغضٌ كامل؛ بل يُحِبُّ بقدر الطاعة ويُبْغِضُ بقدر المعصية، وهذا من العدل حتى في رغبات النفس وفي نوازع القلب.

فإذاً يجتمع في المسلم العاصي الحب من جهة والبغض من جهة، ترى حسناته فتَسُرُّكْ فتحبه، وترى سيئاته فتسوؤك فتبغِضُهُ من هذه الجهة.

فإذاً الحب الكامل لأهل الكمال والبغض الكامل لأهل الكفر، والمؤمن الذي خلط عملاً صالحا وآخر سيئاً فإنه يُحَبُّ من جهة ويُبْغَضُ من جهة.

وهذا أهل السنة والجماعة فيه تبع لما دلت عليه النصوص التي أوجبت موالاة المؤمن ما دام اسم الإيمان باقياً عليه، والبراءة من الكافر ما دام اسم الكفر عَلَمًا عليه.

<<  <   >  >>