للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[المسألة الثانية] :

الجماعة جاء ذِكْرُهَا في حديث الافتراق وفي أحاديث أُخَرْ كقوله صلى الله عليه وسلم: «الجماعة رحمة والفُرْقَةْ عذاب» ، وكقوله «من أتاكم وأمركم جميع يريد أن يشق عصاكم فاقتلوه كائناً من كان» (١) وكذلك قوله في حديث الافتراق «إنَّ اليهود افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإنَّ النصارى افترقت على اثنتين وسبعين فرقة، وإنَّ هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلُّها في النار إلا واحدة» قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: «هي الجماعة» ، وفي رواية قال: «هي ما كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي» (٢) .

فكلمة (الجَمَاعَةَ) جاءت في عدد من الأحاديث نَصَّاً، وجاءت في القرآن مَعْنَىً في قوله تعالى {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} [آل عمران:١٠٣] ، وفي قوله {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً} يعني جميعاً دون تفريق، و {السِّلْمِ} في الآية يعني الإسلام.

{ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً} يعني ادخلوا في الإسلام كافة.

{وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة:٢٠٨] ، بأن تُفَرِّقُوا بين أمرٍ وأمرٍ من أمور الإسلام، فيجب الدخول فيه كافة، وألَّا يقول المسلم إذا أسلم (أنا أدخل في بعض الإسلام ولا أدخل في بعض، أو ألتزم ببعضٍ ولا ألتزم ببعض أو أُقِرُّ ببعضٍ ولا أُقِرُّ ببعض) ، ونحو ذلك.

و (الجَمَاعَةَ) في هذا الموطن اختلف السلف في تفسيرها على عدة أقوال -يعني الآية والحديث وفي غيرهما أيضاً من كلام السلف-.

والذي يجمع كلام السلف كما أوضحته لكم في غير موضع: أَنَّ الجماعة نوعان:

- جماعَةٌ في الدين.

- وجماعَةُ في الأبدان والدنيا.

وأنَّ النصوص تشمل هذا وهذا، وأَنَّ من فَسَّرَ من السلف (الجَمَاعَةَ) بجماعة الدين فإنه -يعني من الصحابة والتابعين - تَفْسيرٌ للشيء ببعض أفراده، كما هو عادة السلف، ومن فَسَّرَهَا بأنها جماعة الأبدان والاجتماع على الإمام وولي الأمر فإنَّهُ يعني بها فرداً أو بعض أفراد الجماعة.

فالجماعة نوعان:

١ - أولاً: جماعةٌ في الدين: وهي الأساس الأعظم لما أنزل الله - عز وجل - به كتبه وأرسل به رسله، فإنَّ الله أرسل الرسل وأنزل الكتب لأجل أن يجتمع الناس في دينهم، وهو توحيد الله - عز وجل -، عبادته وحده دون ما سواه والبراءة من الشرك وأهله، وطاعة رسوله الذي أرسله على الرسل صلوات الله وسلامه.

وهذا هو الذي جاء في نحو قوله - جل جلاله - في سورة الشورى {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:١٣] يعني واجتمعوا عليه، وهو المذكور في قوله {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} [آل عمران:١٠٣] .

وهذا الاجتماع في الدين هو أَعْظَمُ أَمْرٍ لأجله بُعِثَتْ الرسل وأُنْزِلَتْ الكتب، وهو الذي من أجله يجاهد المجاهد ويدعو الدَّاعِي، وهو الذي من أجله آتى الله - عز وجل - الرسل الآيات والبينات، أن يجتمعوا لأجل تحقيق الدين، لأجل ألا يفترق الناس في الالتزام بما يُرْضِي الله - عز وجل - فيما يستحقه في العبادة والطاعة له ولرسوله صلى الله عليه وسلم.

فيدخل هنا في الاجتماع: الاجتماع في ملازمة الإسلام، والالتزام به، وألا نؤمن ببعضٍ ونكفر ببعض، وأن يُدْخَلَ في الإسلام كافَّةْ دون تفريقٍ ما بين مسألة ومسألة -يعني من حيث الاعتقاد والإقرار والإذعان والالتزام-.

٢ - ثانياً: جماعة الأبدان: يعني اجتماع الأبدان والدنيا بملازمة طاعة من وَلَّاهُ الله - عز وجل - الأمر، والسمع والطاعة في غير معصية الله - عز وجل -.

وهذا النوع وسيلة لتحقيق الأوَّلْ، فالأمْرُ به والنهي عن الخروج عن الولاة والأمْرْ بالاجتماع فيما أَحَبَّ الإنسان وكَرِهْ، كما جاء في الحديث «على المرء السمع والطاعة فيما أحب وكره» (٣) ، هذا به يتحقق الاجتماع في الدين.

والتفريط في الأول أو في بعضه يُعَاقِبُ الله - عز وجل - به بالفرقة في الثاني أو بعضه -كما سيأتي بالبحث في الفُرْقَة-، وكذلك التفريط في الثاني وهو: السمع والطاعة لولاة الأمور في غير المعصية والاجتماع وعدم الخروج، التفريط في الثاني يُنْتِجُ التفريط في الأول أو في بعضه.

ولهذا ما مِنْ فُرْقَةٍ في الأبدان حصلت في الأمة إلا وكان معها وبعدها من الافتراق في العقائد ونفوذ البدع والمُحْدَثَات ما لا يدخل في حُسْبَان.

فالأمران مترابطان، والجماعة مطلوبَةٌ في هذا وهذا ومأمورٌ بها، وجماعة الدِّين واجتماع الناس في دينهم حقٌ وصواب، وإحداث المحدَثَات باطل وغلط وضلال، وكذلك الاجتماع في الأبدان والدنيا حقٌ وصواب وخلافه بالفُرْقَةْ والخروج باطلٌ وزيغٌ وضلال.


(١) سبق ذكره مع ما قبله (٤٨٧)
(٢) سبق ذكره (٣٤٤)
(٣) سبق ذكره (٤٨١)

<<  <   >  >>