استغناؤه - عز وجل - عن العرش وما دونه يقتضي أنَّ العرش وما دونه محتاج إليه ومفتقر إلى الربّ سبحانه وتعالى، وهذا له جهتان:
١- الجهة الأولى: أنَّ العرش وما دونه مُفْتَقِر لله - عز وجل -؛ لأنَّهُ لا قَوَامَةَ لَهُ ولا قيام له بنفسه، فهو محمولٌ، له قوائم كما مَرَّ معنا في وصفه، وهو محمول والذي يحمله خَلْقٌ سَخَّرَهُمْ الله - عز وجل - لحمله وأقْدَرَهُمْ على ذلك، فقُدْرَتُهُم في حمل العرش واستقراره وفي بقائه وقيامه إنما هو بقدرة الله - عز وجل -، فهذا نوع من الحاجة.
٢- الجهة الثانية: أنَّ كلّ شيء عبدٌ لله - عز وجل -، ومن ذلك العرش، فالعرش من مخلوقات الله التي تَعْبُدُهُ وتُسَبِّحُهُ وتذِلُ له - عز وجل -، وكذلك حملة العرش، وكذلك من في السموات ومن في الأرض، وكذلك ما في السموات وما في الأرض، وقد قال - عز وجل - {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}[مريم:٩٣] ، وقال أيضاً {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}[الإسراء:٤٤] ، فقوله {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ} هذه نكرة جاءت في سياق النفي بـ {إِنْ} ، لأَنْ {إِنْ} هنا بمعنى ما و {إِلَّا} بعدها حاصرة أو قاصرة، فيكون المعنى: ما من شيء إلا يسبّح بحمده.
والعرش شيء، وتسبيحه بحمد الله - عز وجل - نوع من الذل والعبودية له سبحانه وتعالى، والعبودية والذل معنىً من معاني الافتقار إلى الرب - جل جلاله - وتقدست أسماؤه.
وفي هذا تنبيه للعباد بعامة أنّ هذا المخلوق العظيم الذي الكرسي بالنسبة إليه كالحلقة الملقاة في فلاة من الأرض، (والكرسي) السموات السبع بالنسبة إليه كما جاء في كلام السلف كدراهم سبعة ألقيت في تُرْسْ أو كحلقات ألقيت في ترس، والأرض صغيرة بالنّسبة للسموات، فإنّ هذا يعني أنك أيها العبد أيها الإنسان المخلوق الضعيف الذي تعرف ضعفَك، تنظر إلى العرش الذي هو مفتقر إلى الله - عز وجل - مُسَبِّحٌ ذالٌ منيبٌ إلى ربه - عز وجل -، كيف أنه لا يستغني عن مولاه، وكيف أنه يُسَبِّحُ ويحمد ويَذِلُّ لله - عز وجل -، فهذا المخلوق الضعيف جدا الذي هو الإنسان وأُبتلي بالتكليف لاشك أنه أولى بالذل لله؛ لأنه ضعيف جداً ومفتقر للغاية.
فإذاً النظر إلى العرش وفَقْرْ العرش إلى الله - عز وجل -، وأنَّ قوامَةَ العرش على عِظَمِهِ وعِظَمِ خلق السموات وضعف نِسْبَةِ خلق السموات إلى العرش جداً، كيف الإنسان ينظر إلى نفسه لاشك أنه يستفيد من هذا في قلبه وعمله أنه أولى بالافتقار إلى الله وأولى بالذل إلى الله، وأولى بالعبودية لله - جل جلاله - وتقدّست أسماؤه وهذا من ثمرات التّفكر الشّرعي والنظر في ملكوت السموات والأرض، والنظر أيضا فيما ذكر الله - عز وجل - في كتابه من أنواع خلقه التي لم نر ومنها عرشه - جل جلاله - وتقدست أسماؤه.