[المسألة الخامسة] :
سَبُّ الصحابة تَبَرُؤٌ منهم، وإذا سَبَّ بعضاً فهو تَبَرُؤٌ ممن سب أو بَعْضُ تَبَرُؤٍ ممن سب.
لأنَّ حقيقة السبّ عدم الرضا عن من سُبَّ، وكُرْهْ ما فَعَلْ وإلا فإنَّ الراضي يحمد ويُثْنِي، والمُبْغِضْ هو الذي يسب ويتبرأ.
لهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن سب الصحابة فقال «لا تسبّوا أصحابي» وهذا يقتضي التحريم، فكل سَبٍّ للصحابة محرم، وأكَّدَّ ذلك صلى الله عليه وسلم بقوله «من سبَّ أصحابي فقد آذاني» وأذيته صلى الله عليه وسلم محرمة وكبيرة وكذلك إيذاء الصحابة فقد قال - عز وجل - {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب:٥٨] ، وإيذاء الصحابي احتمالٌ للإثم المُبِيْنْ، وهذا دخولٌ في المحرّمات الشديدة.
ومعنى السَّبْ أن يَشْتُمْ بِلَعْنٍ، أو يَتَنَقَّصْ، أو يطعن في عدالتهم، أو في دينهم، أو أن يتنقصهم بنوعٍ من أنواع التنقص عمَّا وصفهم الله - عز وجل - به، وهذا يختلف بأنواع:
- فقد يشتم بعض الصحابة، فهذا سب.
- قد يَتَنَقَّصْ من جهةٍ دينية.
- وقد يَتَنَقَّصْ من جهة دنيوية لا تُنْقِصُ من عدالته.
مثلاً في الجهة الدينية أن يقول: أنَّهُ لم يكن مؤمناً مُصَدِّقَاً، كان فيه نفاق. أو أن يقول عن الصحابة: كان فيهم قلة علم، أو بعضهم فيه قلة دِيَانَة، أو كان فيهم شَرَهْ على المال أو حب للمناصب، أو كان في بعضهم رغبة في النساء، جاهدوا لأجل النساء، أْكَثُروا من النساء تلذذاً في الدنيا، هم طُلَّابُ دنيا.
إمَّا في وصفهم جميعاً أو في وصف بعضهم.
هذه أمثلة لأنواع السب والقدح الذي قد يرجع إلى قدحٍ في دينهم، وقد يرجع إلى تنقصٍ لهم في عدالتهم وما أشبه ذلك. (١)
: [[الشريط الرابع والأربعون]] :
وسَبُّ الصحابة رضوان الله عليهم كما أنَّهُ مُحَرَّمْ قد اختلف العلماء في هل يكون كفراً أم لا يصل إلى الكفر؟
وكما ذكرتُ لك فإنَّ السَّبَّ مورِدُهُ البُغْضْ؛ لأنَّهُ إذا أْبَغَضَ مُطْلَقَاً أو أَبْغَضَ في جزئية فإنه يَسُبْ، فإنَّ السَبَّ مورده البُغْضْ، ينشأ البغض والكراهة ثم ينطلق اللسان -والعياذ بالله- بالسب.
لهذا الطحاوي هنا قال في آخر الكلام (وَبُغْضُهُم كُفْرٌ ونِفَاقٌ وطُغْيَانٌ)
فيقصد بالكفر هنا الكفر الأصغر ليس الكفر الأكبر، أو ما يشمل -وهو الذي حمله عليه شارح الطحاوية- أو ما يشمل القسمين، قد يكون كفراً أكبر وقد يكون أصغر، والنفاق قد يكون نفاقاً أكبر وقد يكون نفاقاً أصغر بحسب الحال ويأتي تفصيل الكلام في ذلك.
والإمام أحمد رحمه الله وعلماء السلف لهم في تكفير من سَبِّ الصحابة روايتان:
١ - الرّواية الأولى: يَكْفُرْ وسَبَبُ تكْفِيرِهِ أَنَّ سَبَّهُ طعنٌ في دينه وفي عدالة الصحابي، وهذا رَدٌّ لثناء الله - عز وجل - عليهم في القرآن، فرجع إذاً تكفير السابِّ إلى أنَّهُ رَدَّ ثناء الله - عز وجل - في القرآن والثناء من النبي عليهم في السنة.
٢ - والرواية الثانية: أنَّهُ لا يكفر الكفر الأكبر، وذلك لأنَّ مَسَبَّةْ مَنْ سَبَّ الصحابة من الفِرَقْ دَخَلَهُ التأويل ودَخَلَهُ أمر الدنيا والاعتقادات المختلفة.
@ والقول الأول هو المنقول عن السلف بكثرة، فإنَّ جمعاً من السلف من الأئمة نَصُّوا على أنَّ من سَبَّ وشَتَمَ أبا بكر وعمر فهو كافر، وعلى أنَّ من شَتَمَ الصحابة وسبَّهُمْ فهو زنديق، بل قيل للإمام أحمد كما في رواية أبي طالبٍ: قيل فلانٌ يشتم عثمان، قال: ذاك زنديق. وأشباه هذا.
وهذا هو الأكثر عن السلف لأنَّ شَتْمْ الصاحب تكذيبٌ للثتاء أو رد للثناء، سواءٌ كان شتمه لأجلٍ تأويلٍ عَقَدِي أو لأجل دنيا.
وقد فَصَّلَ في بحث السَّبْ ابن تيمية في آخر كتابه الصارم المسلول على شاتم الرسول، وذكر الروايات والأقوال في ذلك ثم عَقَدَ فصلاً في تفصيل القول في الساب.
وما فَصَّلَ به حَسَنْ، وما يدور كلامه عليه رحمه الله وأجزل له المثوبة أنَّهُ يُرْجِعُ السَّبُّ إلى أحوال:
فتارَةً يكون كفراً أكبر، وتارةً يكون محرماً ونفاقاً، ولا يتفق الحال؛ يعني ليس السَبُّ على حالٍ واحدة.
فيكون للسّاب مراتب أو أحوال:
١- الحالة الأولى: أن يَسُبَّ جميع الصحابة بدون استثناء ولا يَتَوَلَّى أحداً منهم، فهذا كفر بالإجماع، يَسُبُّ جميع الصحابة، هذا فعل الزنادقة والمادِّيِينْ والملاحدة الذين يقدحون في كل الصحابة، فيقول: هؤلاء الصحابة جميعاً لا يفهمون، هؤلاء طلاب دنيا، بدون تفصيل، كل الصحابة ولا يستثني أحداً.
فمن سَبَّ جميع الصحابة أو تَنَقَّصَ جميع الصحابة بدون استثناء، تقول له: أتستثني أحدا؟، فلا يستثني أحداً، فلا شك أنَّ هذه زندقة، ولا تصدر من قلبٍ يحب الله - عز وجل - ويحب رسوله ويحب الكتاب والسنة ومن نقل السنة وجاهد في الله حق جهاده.
٢- الحالة الثانية: أن يَسُبَّ أكثر الصحابة تَغَيُّظاً من فِعْلِهِمْ كالغيض الذي أصاب مَنْ عَدَّ نفسه من الشيعة وهو من الرافضة، أو نحوهم ممن سَبُّوا أكثر الصحابة الذين خالفوا -كما يزعمون- خالفوا علياً أو لم ينتصروا لعلي وأثبتوا الولاية لأبي بكر وعمر ثم عثمان، وأشباه ذلك فيَسُبُّونَهُمْ تَغَيُّظَاً وحَنَقَاً عليهم واعتقاداً فيهم.
فهؤلاء أكثر السلف على تكفيرهم ونَصَّ الإمام مالك على أنَّ من سَبَّ طائفة من الصحابة تَغَيُّظَاً؛ يعني غَيظَاً من موقفهم في الدين، فإنَّهُم كفار لقول الله - عز وجل - في آية سورة الفتح {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:٢٩] ، فالذي يكون في قلبه غَيْظْ ويَغْتَاظْ مِنَ الصحابة ألحقه الله - عز وجل - بالكفار، واستدلَّ بها مالك رحمه الله إمام دار الهجرة على أَنَّ من سَبَّهُمْ أو سَبَّ طائفة منهم تَغَيُّظَاً فهو كافر، وهذا صحيحٌ ظاهِرْ.
٣- الحالة الثالثة: أن يَسُبَّ بعض الصحابة لا تَغَيُّظَاً؛ ولكن لأجل عدم ظهور حُسْنْ أفعاله، مثلاً يقول:
هؤلاء بعض الصحابة فيهم قلة علم أو فيهم جشع، أو هذا ما يفهم، أو فيه حب للدنيا، أو نحو ذلك، فهذا ليس بكفر، وإنما هذا محرم لأنه مَسَبَّةْ وهو مخالفٌ لمقتضى الوَلَايَةْ.
وهذا هو الذي يُحْمَلُ عليه كلام من قال من السلف: إنَّ سابَّ الصحابة أو من سَبَّ بعض الصحابة لا يكفر، فيُحْمَلْ على أنَّ نوع السب هو أنَّهُ انْتَقَصَ في ما لا يظهر لَهُ وَجْهُهْ، إمَّا في -مثل ما ذكرت- نقص علم أو في رغبة في دنيا أو نحو ذلك، ولا يُعَمِّمْ وإنما قد يتناول واحد أو اثنين أو أكثر بمثل هذا.
وهذه المسائل، كونه يَقِلْ عِلْمُهُ أو يقول يحب الدنيا، هذا ليس طعنَاً في عدالته لأنَّ قلة العلم ليست طعناً في العدالة، وحب الدنيا بما لا يؤثر على الدين ليس طعناً في العدالة -العدالة يعني الثقة والدين والأمانة-، وإنما هذا انتقاص وتَجَرُّؤْ عليهم بما لا يجوز فعله، ويخالِفُ مقتضى المحبة.
هذا هو الذي يصدق عليه أنَّهُ لا يدخل في الكفر فهو محرم؛ لأنه ليس فيه رد لقول الله - عز وجل - ولكن فيه سوء أدب وانتقاص ودخولٌ في المسبة.
والواجب في أمثال هؤلاء أن يُعَزَّرُوا؛ وذلك لِدَرْءِ شَرِّهِمْ والمحافظة على مقتضى الثناء من الله - عز وجل - على صحابة نبيه صلى الله عليه وسلم.
٤- الحالة الرابعة: أن ينتقص الصحابي أو أن يَسُبَّهُ لاعتقادٍ يعتقده في أَنَّ فِعْلَهُ الذي فَعَلَ ليس بالصواب، وهذا في مثل ما وقع في مقتل عثمان وفِعْلْ علي رضي الله عنه وفِعْلْ معاوية ونحو ذلك، فقد يأتي ويَنْتَقِصْ البعض؛ لأنَّهُ يرى أنَّهُ في هذا الموقف بذاته أنَّهُ كان يجب عليه أن يفعل كذا، لماذا لم يفعل كذا، وهذا يدل على أنَّهُ فَعَلَ كذا، وهذا أيضاً أخف من الذي قبله لأنه متعلق بفرد وبحالة.
وهذا محرمٌ أيضاً، وهل يُعَزَّرْ في مثل هذه الحال أو لا يُعَزَّرْ؟
هذا فيه اختلاف، ولاشك أنَّ قوله وفِعْلَهْ فيما فَعَلْ دُخُولٌ في المسبّة والانتقاص وهذا محرم ودون الدخول في رَدِّ ثناء الله - عز وجل - أو في انْتِقَاصٍ عام، إنما هذا يجب في حقه التوبة من الله - عز وجل - والإنكار عليه.
وهل يُعَزَّرْ أو لا؟
اختلف العلماء في مقتضى التَّعْزِيْرْ، التَّعْزِيْرْ المقصود به التَّعْزِيْرْ بالجلد أو بالقتل، أما التَّعْزِيْرْ بالقول والرَّدْ عليه وانتقاصه هذا واجب.
٥- الحالة الخامسة: ربما تشتبه علي لكن تراجعونها أكثر، نتركها راجعونا أنتم.
(١) نهاية الشريط الثالث والأربعين.