قال رحمه الله (وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ مَخْلُوقَتَانِ، لَا تَفْنَيَانِ أَبَدًا وَلَا تَبِيدَانِ) يريد بذلك أن يُقَرِّرَ ما دلَّ عليه كتاب الله - عز وجل - وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مِنْ أنَّ الجنة موجودة اليوم، وأنّ النار موجودة وأنَّ الجنة مخلوقة قبل خلق آدم والنار موجودة خَلَقَهَا الله - عز وجل - كما خَلَقَ الجنة وخَلَقَ لها أهلاً كما قال (وَخَلَقَ لَهُمَا أَهْلًا) . وهذا الأصل قُرِّرَ في العقائد لأجل ما ذكرت لكم من الأسباب فيما قبله مِنْ أَنَّ هذه المسألة غيبية والدليل جاء بإثباتها، وطائفة من الفِرَقْ الضالة خالفت في هذا الأصل. وأهل السنة يذكرون في عقائدهم -كما سبق أن بَيَّنْتُ لكم- الأمور الغيبية وما يجب أن يُعْتَقَدَ فيها، ويذكرون ما دَلَّتْ عليه النصوص مما يجب التسليم له، ويذكرون أيضاً في عقائدهم ما يتميزون به عن الفِرَقْ الضالة أو عن بعض تلك الفِرَقْ. وهذه المسألة وهي مسألة خلق الجنة والنار، وأنَّ الجنة باقية أبداً والنار باقية أبداً، لا تفنى الجنة والنار ولا تبيدان، كانت من المسائل التي جرى فيها الكلام بعد ظهور الجهمية. وأصل هذه المسألة -كما سيأتي- مرتَبِطٌ بأصلين كلاميين زعمهما الجهمية ومن وافقهم في القدر، وفي تسلسل الأفعال والمخلوقات والمُؤثِرَات. فالله - جل جلاله - لم يُجْرِ عالم الغيب على قياس عالم الشهادة، وهذا أصلٌ مهم في بيان ضلال من ضَلَّ في المسائل الغيبية، حيث جَعَلُوا عَالَم الغيب مَقِيساً على عالم الشهادة، فما يصلح لعالم الشهادة يصلح لِعَالَم الغيب، والقوانين والسُنَنْ التي تحكم عالم الشهادة يجعلونها صالحةً لعالَم الغيب، والله - عز وجل - خلق كل شيء فَقَدَّرَُه تقديراً، كلٌّ له تقديره الخاص. ووجود الجنة والنار عقيدةٌ ماضية دلَّ عليها القرآن والسنة، والأدلة في ذلك كثيرة جداً: نذكر منها قول الله - عز وجل - {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [الأعراف:١٩] ، والجنة هذه هي جنة الخلد، التي فيها الخلود الذي لا يزول عنه المرء ولا يَحُولْ. ووَصَفَ الله - عز وجل - حين عُرِجَ بنبيّه أن عنده جنة المأوى فقال - عز وجل - {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (١٤) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم:١٣-١٦] ، فأثبت - عز وجل - أنه حين عُرِجَ برسول الله صلى الله عليه وسلم كانت الجنة هناك. والنبي صلى الله عليه وسلم أُرِيَ في ذلك المقام الشجرة الملعونة قال - عز وجل - {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء:٦٠] ، لهذا لما وَصَفَ لهم حال النار وحال تلك الشجرة قالوا ما قالوا في أَنَّ الزَّقُوم والتَّزَقُّمْ إنما هو خلط التمر بالزبد ونحو ذلك فقال - عز وجل - {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعَامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان:٤٣-٤٦] والآيات في هذا المعنى كثيرة. وفي السنة أيضاً في بيان هذا الأصل، وأنَّ نَسَمَةْ المؤمن في الجنة كقوله «نسمة المؤمن طائر يعلق من ثمار الجنة (١) » وكقوله في أرواح الشهداء «أرواح الشهداء في جوف طير خضر تهوي إلى قناديل معلقة تحت العرش في الجنة» (٢) . وكذلك قوله - عز وجل - في الشهداء {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران:١٦٩-١٧٠] . ونحو ذلك مما فيه تقرير على أنَّ الجنة موجودة والنار موجودة، وأنَّ هذه سيدخلها من يدخلها وهذه سيدخلها من شاء الله أن يدخلها. فإذاً أهل السنة قَرَّرُوا هذا في العقائد تَبَعَاً للدليل، وهذا أمرٌ واضح بَيِّنْ فيما دلَّ عليه القرآن والسنة. ونذكر المسائل المتعلقة بهذا: