للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[المسألة الثالثة] :

- الاستطاعة التي قبل الفعل كما ذَكَرْ هي مناط التكليف: الأمر والنهي.

- والاستطاعة التي مع الفعل -ولم يَذْكُرْها- هي مناط الثواب والعقاب. (١)

- والاستطاعة التي قبل الفعل من جهة السلامة ومن جهة البلوغ مثلاً واليقظة إلى آخره من جميع الأسباب، هذه تتعلق بها الأوامر والنواهي وهي التي يتكلم عنها الفقهاء.

@ أما التي مع الفعل وهي المنوط بها الثواب والعقاب، فمعلوم أنَّ فِعْلَ العبد -كما ذكرنا- لم يستَقِلْ بتحصيل النتيجة، وبالتالي فالثواب إذاً لم يستقل العبد بتحصيل أسبابه.

ولهذا فتقول إذاً: أنَّ إثابة الله - عز وجل - لعبده هو مِنَّةٌ من الله على عبده.

لم؟

لأنَّ أصل تحقيق الفعل لم يكن مُجَرَّدَاً باختيار العبد؛ بل هناك أمر زائد وهو مِنَّةْ الله وفضله على العبد وإعانته عليه.

ولهذا سألني أحد الإخوان الأسبوع الماضي سؤالاً متعلق بهذا المبحث وهو أنَّ رضا الله - عز وجل - عن العبد وإثابته للعبد هو نتيجة لشيءٍ فَعَلَهُ الله - عز وجل - وهو هداية العبد لأن يفعل.

ولهذا المؤمن الصالح كلما زاد علماً عَلِمَ أنَّهُ ليس منه شيء وليس إليه شيء، مثل ما كان يقول ابن تيمية (اللهم ليس مني شيء ولا فِيَّ شيء ولا إِلَيَّ شيء؛ لكن مع ذلك ليس مجبوراً) .

هُوَ ينظر إلى أنَّهُ يختار وعنده قُدْرَة ويعرف أنه مُحَاسَبْ؛ لكن إنْ أعانه الله - عز وجل - ووَفَّقَهُ على الفعل وصار من أهل الطاعة، فإنَّه يعلم أنَّهُ بِسَبَبٍ أَحْدَثَهُ الله - عز وجل - له وهداه إليه.

وهذا معنى نصوص الهداية في القرآن، ليس معنى نصوص الهداية ونصوص القَدَرْ السابق، أنها إجبار على العبد وإنما معناها أنَّ الله هيأ لهذا العبد الأسباب التي تعينه على تحصيل المراد، وأعانه عليها.

وهذا هو تفسير أهل السنة للتوفيق.

في المقابل من جهة العاصي فإنَّ الله - عز وجل - منعه أسباب الهدى.

لماذا منعه؟

لأمْرٍ يرجع إلى نفسه وفِعْلِهْ؛ لأنَّهُ كما أعطى ذاك بسبب فإنَّه مَنَعَ هذا بسبب وهو أنَّهُ رَغِبَ في هواه وتَرَكَ التخلي من هواه ومن شهوته.

ولهذا قال - عز وجل - في وصف الكفار {أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان:٤٣] ، وقال - عز وجل - في الآية الأخرى في سورة الجاثية {أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية:٢٣] ، أضَلَّهُ الله على علم.

إذاً فالذي أُعْطِيَ أُعِيْنْ، والذي حُرِمْ عُومِلَ بسبب فِعْلِهِ هو {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:٣٠] .

فإذاً نَظَرْ المعتزلة في المسألة وهي أنَّ الذي أُعْطِيَ والذي مُنِعْ إنما من أنفسهم، لم يُعْطِ الله هذا ولم يمنع هذا، هذا في الواقع نَظَرْ منهم إلى الظلم والعدل بما يُحَكِّمُونَ فيه فعل العبد.

مثل أن يُعْطِي ولده هذا ويمنع هذا ويقول لهذا تزوج وهذا ما تزوج، هذا فيه تفريق، لأنَّهُ أُعْطِيَ هذا ومُنِعَ هذا.

لكن هنا الإعطاء صار للجميع، أين الإعطاء الذي صار للجميع؟

هو ما قبل الفعل وهو الاستطاعة المُثْبَتَةْ، لم يُكَلِّفْ الله - عز وجل - المجنون الكافر ورَفَعْ التكليف عن المجنون المؤمن، الجميع سواء لأنَّ هذا تكليف واستطاعة قبل الفعل.

لكن الاستطاعة التي مع الفعل، ينتج عنها الفعل، فَأُعِيْنَ هذا بسبب وحُرِمَ ذاك بسبب، ولو أنَّ الكافر أو الذي ضل لو أنَّهُ سَلَكَ سبيل الهدى ورَغِبَ بإرادته لأعانه الله - عز وجل - ووفَّقَه؛ لكن كما قال - عز وجل - في وصفهم {أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} .

ويُمَثِّلْ هذا قول أبي جهل قال (حتى إذا تنازعنا نحن وبنو هاشم الشَرَفْ وكنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يأتيه الوحي من السماء وليس منكم نبي، والله لا نؤمن به أبداً) (٢) ، هنا دخل الهوى، دخلت الشهوة، ودخلت الدنيا فصدَّتْ.

فإذاً تحقيق القول في المسألة هنا أنَّ سبب ضلال المعتزلة في باب الاستطاعة وباب القَدَرْ في هذه أنهم جَعَلُوا الظلم واحداً، جعلوا هذا وهذا متساويين في القُدْرَة وفي الآلات، ولهذا نَفَوا خلق الله - عز وجل - للأفعال، وقالوا العبد يخلق فعل نفسه لأجل أن لا ينتج عنها أنَّ الله ظَلَمْ فأدخل الجنة هذا وأدخل النار ذلك.

ونَظَرْ أهل السنة أنَّ الله - عز وجل - ساوى بين الناس في التكليف في الآلات في الاستطاعة التي هي قبل الفعل، أمَّا الاستطاعة التي مع الفعل، لا يحدث الفعل إلا بأشياء الله سبحانه وتعالى أعان هذا بأسباب، ومنع هذا بأسباب، وهو سبحانه وتعالى الحكم العدل في هذا كله.


(١) انتهى الوجه الأول من الشريط التاسع والثلاثين.
(٢) البداية والنهاية (٣/٦٤)

<<  <   >  >>