والدليل على هذا الأصل قول الله - عز وجل - في الكافرين في اليأس {إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:٨٧] ، في قول يعقوب عليه السلام لما قال لبنيه {يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:٨٧] ، فنهاهم عن اليأس من رَوْحِ الله وعلَّلَ ذلك بأن هذا من خصال الكافرين. وأما الأمن فالأمن من مكر الله - عز وجل - جاء النهي عنه في غير ما آية منها قوله تعالى في سورة الأعراف {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:٩٩] . والأمن من مكر الله كُفْرْ، واليأس من رَوْحِ الله كُفْرٌ أيضا كما قال (يَنْقُلَانِ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ) لأنَّ الله - عز وجل - وصف الكافرين والخاسرين الذين استحقّوا العقوبة منه والعذاب بأنهم يأمنون من مكر الله وييأسون من رَوْحِ الله - عز وجل -. وأما أهل السنة والجماعة فهم لا يَأْمنون بل يخافون ذنوبهم ويخافون عقوبة الله - عز وجل -، ويعلمون أنَّ الله سبحانه خافته ملائكته وهم أقرب الأقربين وهم المقربون إليه - عز وجل - المُطَهَّرُونَ من دنس الآثام ومن رجس الذنوب يخافون ربهم، كما قال {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:٥٠] ، وكما قال {إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبإ:٢٣] . واليأس أيضا من روح الله هذا صفة أهل القنوط، فأهل السنة والجماعة بين هؤلاء وهؤلاء، لا يأمنون بل يخافون الله - عز وجل - ولا ييأسون بل يرجون. وهذه راجعة إلى أنهم -يعني أهل الحق وأهل السنة- يرجون رحمة الله ويخافون عذابه، كما وصف الله - عز وجل - أولياءَهُ المقربين بقوله {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:٥٧] ، وهذه من صفات المتقين، وكذلك في قوله في سورة الأنبياء {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:٩٠] ، فجَمَعَ لهم بين الرّغب والرهب. إذا تبين ذلك فإنَّ الأمن والإياس رِدَّةْ عن الدين كما قال (يَنْقُلَانِ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ) بضابط. ومن المهم معرفة هذا الضابط؛ لأنه هو نكتة المسألة وعُقْدَتُها، وهو: - أنَّ الأمن يكون كُفْراً إذا انعدم الخوف. - واليأس يكون كُفْراً إذا انعدم الرجاء. فمن لم يكن معه خوف من الله - عز وجل - أصلاً -يعني أصل الخوف غير موجود- فقد أَمِنَ فهو كافر. ومن لم يكن معه رجاء في الله - عز وجل - أصلاً فقد يئس من روح الله فهو كافر. إذاً الأمن والإياس مرتبطان؛ بل معناهما الخوف والرجاء. الأمن لأجل عدم الخوف، واليأس لأجل عدم الرّجاء. فمن كان عنده خوف قليل ويأمن كثيراً فإنه من أهل الذّنوب لا من أهل الكفر، فإن لم يكن معه خوف أصلاً فإنه كافر بالله - عز وجل - كما قال هنا (يَنْقُلَانِ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ) . أما أهل التوحيد، أهل الذنوب من أهل القبلة فإنهم بِقَدْرِ ما عندهم من الذّنوب يكون عندهم أَمْنْ من مكر الله - عز وجل -. فإذاً الأمن من مكر الله يتبعَّضْ، لا يوجد جميعاً ويذهب جميعاً؛ بل قد يكون في حق المعيَّنْ أنه يخاف تارة ويأمن تارة، يصحو تارة ويغفل تارة. وكذلك في اليأس من رَوحِ الله يغلب على المرء الموحّد تارةً أنه ييأس إذا نظر إلى ذنبه، أو نَظَرَ إلى ما يحصل في مجتمعه أو ينظر إلى ما قضى الله - عز وجل - في هذه الأرض وعلى أهلها من الشرك مثلاً أو من الذنوب أو من الكبائر أو من القتل أو من الفساد فيأته اليأس، فإنْ غَلَبَ عليه اليأس بحيث انعدم الرجاء لنفسه أو للناس فإنه يكفر بذلك. أما إذا وُجد عنده اليأس ووُجد عنده رجاء فإنه لا يخرج من الملّة. فإذاً هنا ضابط الأمن والإياس الذي ينقل عن الملة هو ما ذكرته لك. وأما المُوَحِّدْ المُعَيَّنْ من أهل الإيمان فإنه بحسب قوة يقينه يجتمع فيه أنَّهُ -يعني قد يكون عنده أَمْنْ بحسب ذنوبه-، ومن كَمَّلَ الإيمان وحقَّقَ التوحيد فإنه يخاف ولا يأمَنُ من مكر الله. والأمن من مكر الله؛ يعني الأمن من استدراج الله - عز وجل - للعباد.