للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[المسألة الثانية] :

أنّ القَدَرْ - لَمَّا كان هذا أول موضع فيه - يجب أن يُبْحَثْ من جهة النصوص فقط؛ لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - صحّ عنه أنه قال (إذا ذُكر القدر فأمسكوا) (١) يعني فأمسكوا عن الخوض فيه بما لم يَدُلَّكُمْ عليه كلام الله - عز وجل - أو كلام نبيكم ?.

فإذا تكلمنا في القَدَرْ أو خاض المرء فيه بعقله وفهمه فيجب أن لا يَتَعَدَّى ما دلت عليه النصوص، وذلك لأن تجاوز ما دلت عليه النصوص في باب القَدَرْ بسببه ضَلَّ الناس.

وهذا الخوض يسبّب الضلال، إذا تَعَرَّضَ الناظر لأمور تسبب له الضلال في القدر -:

١ - الأمر الأول: الخوض في أفعال الله - عز وجل - بالتعليل.

إذا خاض في أفعال الله - عز وجل - بالتعليل الذي يظهر له دون حجة فإنه يضل، لأنّ أفعال الله - عز وجل - صفاته سبحانه وتعالى، وهي مرتبطة عندنا بعلل توافق حكمة الربّ - عز وجل -، والمخلوق لا يفهم من تعليل الأفعال إلا بما أدركه أو بما يصل إليه إدراكه.

بما أدركه يعني يرى مثيله، علَّلَ هذا بهذا لأنه مرّ عليه، أو أدْرَكَهُ بما شاهد، أو أنَّهُ يصل إليه إدراكه بالمعلومات المختلفة التي يُقَدُِّّرَها.

وقد قدمنا لكم أنّ الأساس في صفات الله - عز وجل - أنه لا يُدرَكُ كيفية الاتصاف بالصفات، كما لا يُدرَكُ كمال معرفة حكمة الله ولا كمال التعليل. (٢)

ولهذا من خاض في التعليلات، في الأفعال بالعِلَلْ، فإنه لابد أن يخطئ إذا تجاوز ما دلَّ عليه الدليل.

والعلل قسمان: عِلَلْ كونية وعِلَلْ شرعية.

وأفعال الله مُعَلَّلَةْ لاشك: أفعال الله في ملكوته مُعَلَّلَةْ وأفعال الله - عز وجل - في شرعه - يعني أحكام الله - عز وجل - في الشرعية مُعَلَّلَةْ، يعني الشرعيات في الغالب مُعَلَّلَةْ -.

إذا تبين لك ذلك فإن الخوض في التعليلات، في الأفعال بالعِلَلْ هو سبب ضلال الفِرَقْ المختلفة في باب القَدَرْ، هو سبب ضلال القدرية المشركية، وهو سبب ضلال القدرية الغلاة النافية للعلم، وهو سبب ضلال القدرية المتوسطون أو المعتزلة؛ لأنَّ الفِرَقْ الرئيسية في القَدَرْ ثلاث كما سيأتي بيانه:

- قدرية مشركية: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} [الأنعام:١٤٨] .

- وقدرية غلاة: نفاة العلم الذين قالوا إنَّ الأمر أُنُفْ ولا يَعْلَمُ الأشياء.

- وقدرية متوسطة: وهم المعتزلة في باب القَدَرْ الذين لم ينفوا كل مراتب القَدَرْ، لم ينفوا العلم السابق كما سيأتي تفصيله في موضعه.

وكل هذه الفرق خاضوا في مشيئة الله وإرادته والتعليلات بعقولهم، فَلَمَّا لم يفهموا التعليل ضلوا، كما قال شيخ الإسلام في تائيته القدرية:

وأصلُ ضلالِ الخَلْقِ مِنْ كُلِّ فِرقَةٍ ****** هو الخوضُ في فعْلِ الإلهِ بعلَّةِ

فإنَّهمُ لم يَفْهَمُوا حِكْمَةً لَهُ ****** فصاروا على نَوْعٍ مِنَ الجاهليَّةِ

فإذاً الأمر الأول من أسباب الضلال في هذا الباب الخوض في الأفعال.

لِمَ أغنى؟ ولِمَ أفقر؟ ولِم أصحّ؟ لِمَ خلَقَ هذا الشيء على هذا النحو؟ لِم أعطى؟ لِم شرع؟ لِم جعل هذه الأمة كذا وهذه الأمة كذا؟ لِم جعل الأرض كذا؟ لِم جعل الجنة كذا؟ لِم جعل مصير هذا كذا؟ إلى آخره، كل هذا إذا خاض فيه العبد فإنه باب ضلال لأنّ القَدَرْ سر الله - عز وجل -.

٢ - الأمر الثاني: قياس أفعال الله - عز وجل - على أفعال المخلوقين، أو جعل ميزان تقدير الله على وجه الكمال والصحة هو ميزان تقدير المخلوقين.

فإنَّ العباد إذا نظروا في فِعْلِ المخلوق وفي تقديره وتصرفاته فإنهم يجعلون الصواب والكمال في حق المخلوق على نحوٍ ما، فإذا نقلوا هذا الذي أدركوه في المخلوق إلى فِعْلِ الله - عز وجل - فإنه أتى بابٌ كبير من أبواب الضلال - يعني حصل باب كبير من أبواب الضلال -.

كما حصل للقدرية من المعتزلة وأشباههم، فإنهم قاسوا أفعال الله بأفعال خلقه، فأوجبوا على الله - عز وجل - فعل الأصلح بما عهدوه من فعل الإنسان، وأوجبوا على الله - عز وجل - العدل ونفوا عنه الظلم بما عهدوه من فعل الإنسان.

ولهذا قالوا إنَّ الله - عز وجل - يجب عليه فعل الأصلح، وأنه يَحسُنُ في فعل الله كذا، ويقبح كذا، فما حسَّنَتْهُ عقولهم بما رأوه في البشر حَسَّنُوهُ في فعل الله، وما قبَّحَتْهُ عقولهم من أفعال المخلوقين قَبَّحُوهُ في فعل الله، فنفوا أشياء عن الله - عز وجل - ثابتة له لأجل هذه المسائل الثلاثة التي ذكرتها لكم:

- مسألة التحسين والتقبيح.

- مسألة الصالح والأصلح.

- مسألة الظلم والعدل.

فهذه المسائل الثلاث هي أعظم أبواب ضلال القدرية، ولهذا يجب أن لا يَدْخُلَ فيها المكلف إلا بما دلت عليه النصوص.

والأصل في هذا أَنَّ الله سبحانه لا يُشَبَّهُ بِخَلْقِهِ في أفعاله ولا في صفاته، كما قال سبحانه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١] .


(١) المعجم الكبير (٢/ ١٤٢٧)
(٢) راجع (٤٥)

<<  <   >  >>