- تقرير قول السلف وأئمة الحديث والسنة وأهل السنة والجماعة والأثر في مسألة القرآن وكلام الله عز وجل. - وأنّ القرآن كلام الله منه بدأ وإليه يعود. - وأنّ القرآن ليس بمخلوق. - وأنّ من زعم أن القرآن مخلوق فهو كافر. - وأنّ من زعم أن القرآن كلام البشر فهو كافر لتواتر كلام (١) .
: [[الشريط الثامن]] :
الله - عز وجل - على ذلك بقوله {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:٢٦] . وهذه المسألة وهي مسألة القرآن وكون القرآن كلام الله - عز وجل - منزل غير مخلوق، هذه أكبر المسائل التي اختلف فيها المنتسبون إلى القبلة. ولأجلها وكثرة الكلام فيها سُمِّي أهل الكلام بأهل الكلام. فهي مسألة شرَّقت وغرَّبت في القرن الثاني الهجري، وكثر الكلام فيها وإثبات ذلك ونفيه؛ يعني إثبات أنَّ القرآن كلام الله وأنَّ الله يتكلم حقيقة وما أشبه ذلك، والكلام في نفي ذلك، حتى صارت عنوانا على الانحراف في التوحيد بما سمي بعلم الكلام. ومذهب أهل السنة والجماعة الذي دلّت عليه النصوص من القرآن والسنة ودل عليه إجماع سلف هذه الأمة هو ما ذكره الطحاوي فيما سمعت وهو قوله (وإِنَّ القرآنَ كَلامُ الله، منْهُ بَدَا بلاَ كَيْفِيَّة قَوْلاً، وأنْزلَه على رَسُولِهِ وَحْياً، وَصَدَّقهُ المؤمنون على ذلك حَقًّا) . وهذه الجمل إلى آخرها اشتملت على مسائل؛ يعني اشتملت على موضوعات: ١ - الموضوع الأول: أنّ القرآن كلام الله. ٢ - الموضوع الثاني: أنه ليس بمخلوق. ٣ - الموضوع الثالث: أنَّ من زعم أنَّ القرآن كلام البشر فهو كافر. الموضوع الأول هي قوله (وإِنَّ القرآنَ كَلامُ الله ... ) إلى آخره، هذه نذكر فيها بعض التعريفات المهمة لتصورها ولتصور مذهب أهل السنة والجماعة فيها: أولا قوله (القرآن) بل قبل ذلك نقول قوله (وإِنَّ القرآنَ) هذه الكلام في كسر همزة (إِنَّ) كالكلام في كسر الهمزة قبلها في قوله (وإِنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ المصطَفى) يعني: نقُولُ في تَوحيدِ الله: إِنَّ القرآنَ كَلامُ الله لأنّ توحيد الله هو الإيمان، والكلام في القرآن كلام في ركن من أركان الإيمان وذلك أنَّ الإيمان هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه. فالكلام في القرآن وأنه كلام الله كلامٌ في التوحيد؛ في توحيد الله تعالى.
* التعريفات:
قال (وإِنَّ القرآنَ كَلامُ الله) القرآن في اللغة: مصدر قرأ يقرأ قراءة وقرآناً، فالقرآن مصدر قرأ، كما قال الشاعر في وصف عثمان رضي الله عنه: ضَحَّوا بِأَشْمَطَ عُنوانُ السُّجُودِ بِهِ ****** يُقَطِّعُ الليل تسبيحاً وقرآناً يعني قراءة، رضي الله عنه. وأما في الاصطلاح: فالقرآن اسم لكل كتاب يُتلى أنزله الله - عز وجل - على نبي من أنبيائه. وذلك يدل على أنّ تخصيص القرآن بالاسم بما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو كتخصيص الدين الذي أنزل عليه بالإسلام. فالقرآن هو الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، كما أنَّ الإسلام هو الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وإنْ اشْتَرَكَ في الإسلام دعوة جميع الأنبياء والمرسلين، وكذلك القرآن. دلّ على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه وصح (ما أذن الله لشيء أذنه لنبي يقرأ القرآن يجهر به يتغنى به) (٢) فدَلَّ هذا على أنَّ قِراءة النبي لما أنزل عليه والتغني بذلك على أن هذه القراءة للقرآن كما نصَّ عليه الحديث. وهذا موافق لقولهم لأنَّ أصل كلمة قرآن مصدر لـ قَرَأَ يَقْرَأْ قراءة وقرآناً، لكن هي لما فيه شرف ومنزلة. (كَلامُ الله) هذا اللفظ الثاني، كلام الله هو صفة من صفاته. والكلام أصله في اللغة: ما سُمِعَ من الأقوال وتَعَدَّى قائله. وهذا مأخوذ من اشتقاق المادة أصلاً، مادة (الكاف واللام والميم) . فإنَّ (كَلَمَ) هذه تدل على قوة وشدة في تصريفاتها وتفريعاتها في لغة العرب كما حرَّرَ ذلك العلامة ابن جني في كتابه (خصائص اللغة) . وهذا يدل على أنَّ حديث النفس لا يسمى في اللغة كلاماً، وعلى أنَّ القول الذي يسمعه صاحبه دون غيره -يعني ما يجريه على نفسه- لا يسمى كلاماً - يعني في اللغة -، أو يحرك به لسانه لا يسمى كلاماً حتى يُسمِعَ غيره. وهذا يدل عليه من حيث الاشتقاق الأكبر والأوسط أنَّ هذه الأحرف الثلاثة هذه (كَلَمَ) حيثما فَرَّقْتَهَا لا تدل على خفاء ولا تدل على لين ولا تدل على رخاوة؛ بل هي تدل على قوة وصلابة وشدة. فخذ مثلا كَلَمَ بمعنى جَرَحَ. وكَلَّمَ بمعنى تحدّث. وقلب هذه الكلمة مَلَكَ فيه قوة. ولَكَمَ فيه قوة. وكمُلَ فيها قوة. فحيث تَصَرَّفت هذه المادة وقَلَّبْتَهَا مُسْتَخْدِمَاً الاشتقاق الأكبر أو الاشتقاق الأوسط فإنَّ هذا يدل على قوة وشدة، ولا يدل على خفاء ورخاوة ولين، وهذا أصل مهم في هذا الباب في فهم معنى الكلام لغة. وسيأتي مزيد تفصيل عند الرد على قول الجهمية والمعتزلة في هذه المسألة. قوله (كَلامُ الله) الكلام صفة من صفات الله وإضافته إلى الله - عز وجل - هنا إضافة صفة إلى متصف بها. والذي جاء في القرآن والسنة أنَّ ما يضاف إلى الله - عز وجل - نوعان: ١ - النوع الأول: إضافة مخلوقات إلى الله سبحانه، أعيان قائمة بنفسها، وهذا كإضافة البيت (بيت الله) ، وإضافة الناقة {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} [الشمس:١٣] ، وإضافة العبد {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ} [الجن:١٩] ، وكل هذه إضافة مخلوق إلى خالقه، ولكن هذه الإضافة لتخصيصها بالله - عز وجل - تدل على شرف المضاف إلى الله - عز وجل - -، يعني على شرف البيت، شرف الناقة، شرف محمد صلى الله عليه وسلم. ٢ - النوع الثاني: معاني وليست بأعيان، معاني لا تقوم بنفسها،مثل الرحمة لا يوجد أمامنا شيء يسمى رحمة مستقل عن من يقوم به، لا يوجد عندنا شيء يسمى كلام مستقل عن متكلم أو سامع، هذه المعاني والصفات إذا أُضيفت إلى الله - عز وجل - فإنها إضافة صفة إلى متصف بها، وهذا أخذ بقواعد اللغة العربية.
قال بعدها (منْهُ بَدَا بلاَ كَيْفِيَّة قَوْلاً) هذه الكلمة (منْهُ بَدَا بلاَ كَيْفِيَّة قَوْلاً) أوردها لاستعمال طائفة من أئمة أهل السنة والحديث والأثر لهذه الكلمة، وهو أنهم قالوا: القرآن كلام الله مُنَزَّلٌ غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود، فاستعملها كما استعملها الأئمة من قبله. قوله (منْهُ بَدَا) بدأ منه، (مِنْ) هنا ابتدائية. و (مِنْ) لها استعمالات كثيرة في اللغة، ومنها أن تكون للابتداء، وقد جمع الناظم في حروف المعاني، جَمَعَ معاني (مِنْ) في اللغة العربية،جمعها في اثني عشرة معنى، وهي تزيد عن ذلك فقال: أتتنا من لتبيين وبعض ****** وتعليل وبدءٍ وانتهاء وزائدة وإبدال وفصل ****** ومعنى عن وعلى وفي وباء فأول معاني (من) التبيين ثم التبعيض والتعليل والبدء، هذه رتبها. ومعنى (من) الابتدائية أن يكون الفعل بدأ من المُسْنَدِ إليه. وقوله هنا (منْهُ بَدَا) يعني أنه ابتدأ من الله - عز وجل -، يعني من الله ابتدأ. فيعني بـ (مِنْ) أن ابتداءه كان من الله - عز وجل -. وهذا دلت عليه آيات كثيرة كقوله {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل:١٠٢] ، وكقوله {تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:٤٢] ، وغير ذلك كما سيأتي بيانه. قوله (بَدَا) هكذا بلا همز (منْهُ بَدَا) تفسيرها يعني ظهر، (منْهُ بَدَا) يعني كان ابتداء ظهوره وخروجه من الله - عز وجل -. ويقال فيها أيضا (منْهُ بَدَأَ) ، بَدَأَ بالهمز يعني به الابتداء، منه ابتدأ، وأن الله سبحانه هو الذي بدأه، لم يُبْتَدَأْ تنزيله من غير الله - عز وجل -؛ بل نَزَلَ من الله ابتداءً. قال (بلاَ كَيْفِيَّة قَوْلاً) تقدير الكلام أو سياق سبر الكلام؛ المراد منه: منه بدا قولاً بلا كيفية. يعني منه بدا؛ لم يبتدئ منه معناً ولكن بدأ منه قولاً، ظَهَرَ وخَرَجَ القرآن منه قولاً. فهو كلامه وقد ظهر وخرج أو ابتدأ منه قولاً. ففي قوله قولاً إخراجٌ لمن ادعى أنه معنى من المعاني جُعِلَ في نفس جبريل. قوله (بلاَ كَيْفِيَّة) يعني بلا كيفية معقولة، وإلا فإنَّ كلام الله - عز وجل - لاشك أنَّ له كيف ولكن الكيف غير معقول. فيَصْدُقُ على هذا قول الإمام مالك في الاستواء: إنّ الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول.
قال (وأنْزلَه على رَسُولِهِ وَحْياً) (أنْزلَه) يعني الإنزال من الله - عز وجل -. والإنزال في القرآن والسنة جاء على نوعين: ١ - النوع الأول: إنزال مطلق وهذا يكون من الله - عز وجل -، وقد يُذْكَرْ من الله وقد لا تُذْكَرْ فيكون الإنزال المطلق من الله - عز وجل -. ٢ - النوع الثاني: أن يكون إنزالاً مقيداً؛ يعني أنه يُقَيَّدُ ابتداء الإنزال من شيء مخلوق، {وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ} [ق:٩] ، فصار هنا ابتداء الإنزال أو التنزيل من السماء، ونحو ذلك من الآيات التي فيها التنزيل المقيد. إذاً قوله (وأنْزلَه على رَسُولِهِ) هذا لأجل أنّ الآيات فيها ذكر التنزيل، والتنزيل مطلق منه - عز وجل -، كقوله {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل:١٠٢] ، وكقوله {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ (١٩٤) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:١٩٢-١٩٥] . وفي آية الشعراء هذه قوله (عَلَى قَلْبِكَ) لأنَّ القلب به تتميز المُدْرَكَاتْ المسموعة أو المُدْرَكَاتْ المرئية أو المُدْرَكَاتْ المعقولة، فذِكْر القلب في آية الشعراء لأجل تمييز المُدْرَكَاتْ بأنواعها؛ تمييز المسموعة عن المسموع، وتمييز المرئي عن المرئي، وتمييز المعقول عن المعقول وهكذا. وكذلك قوله {تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:٤٢] ، وكذلك قوله {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:٥٨] ، والآيات في هذا الباب كثيرة متنوعة. قال (وأنْزلَه على رَسُولِهِ وَحْياً) والوحي هنا المقصود به أنَّ الإنزال كان وحياً. (أنْزلَه على رَسُولِهِ وَحْياً) أُوحِيَ على محمد صلى الله عليه وسلم. والوحي في اللغة -يعني تعريف الوحي في اللغة-: إلقاء الخبر أو العلم في خفاء وسرعة. ولهذا سُمِّيَت الكتابة وحياً وسُمِّيَت الإشارة وحياً، وهكذا، وهذا بحث معروف في اللغة واضح. والوحي من جهة الاصطلاح: اختلفت التعاريف فيه بحسب اصطلاح مذهب القائل. ولهذا تجد في كثير من كتب التفسير تعريف للوحي لا ينطبق على مذهب أهل السنة والجماعة في مسألة الكلام، وربما نقله من لا يحسن. فإذاً لابد من معرفة تعريف الوحي في الاصطلاح - يعني عند أهل السنة والجماعة -. فعُرِّف الوحي اصطلاحاً عند أهل السنة والجماعة: هو إِعلامُ النبي بشيء إما بكتاب أو برسول أو بمنام أو بإلهام. وفي كلٍ مِنْ هَذِهِ خلاف لبعض المخالفين.
قال (وَصَدَّقهُ المؤمنون على ذلك حَقًّا) يعني آمن به المؤمنون.
قال (وأَيْقَنُوا أنَّه كلامُ الله تعالى بالحقيقة) قوله هنا (أَيْقَنُوا أنَّه كلامُ الله تعالى بالحقيقة) استعمل لفظ (بالحقيقة) ردًّا على قول من قال إنه كلام الله تعالى مجازاً كما هو قول المعتزلة وغيرهم. هذا من جهة استعمال لفظ الحقيقة بما اسْتُعْمِلَتْ فيه عند أهل هذه البحوث.
قال (ليس بمخلوقٍ ككلام البَرِيَّةِ) يعني أنَّ الله سبحانه تكلم بهذا الكلام وهو صفته ليس بمخلوق؛ بل هو وحي منزل،كلام الله - عز وجل - صفته، وأما المخلوق فهو كلام البرية. إذا تبينت لك هذه التعاريف سنقف عند هذا، ونرجع إلى تقرير ما اشْتَمَلَتْ عليه. هذه الجمل فيها تقرير: - أنّ القرآن كلام الله - عز وجل -. - وأَنَّهُ منه بدأ. - وأَنَّهُ وحي. - وأَنَّهُ كلامه حقيقة. - وأَنَّهُ ليس بمخلوق. وهذه المسائل التي ذُكِرَتْ هي التي قررتها الأدلة في الكتاب والسنة بحيث إنه من نَظَرَ فيها أيقن أَنّ كل قول خلاف هذا القول فهو باطل. ولبيان ذلك سنقول: الكلام على ما اشتمل عليه كلامه السابق ينتظم في مسائل: