[المسألة الثالثة] :
راجعة إلى كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) ما معناها؟
معناها: لا معبود حق إلا الله - عز وجل -.
وكما هو معلوم الخبر في قوله (لا) ، خبر (لا) النافية للجنس محذوف (لا إله) ، ثم قال (إلا الله) .
وحذْفُ الخبر؛ خبر (لا) النافية للجنس شائع كثير في لغة العرب كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (لاَ عَدْوىَ، وَلاَ طِيَرَةَ، وَلاَ هَامَةَ، وَلاَ صَفَرَ، وَلاَ نَوْءَ، وَلاَ غُولَ) (١) فالخبر كله محذوف.
وخبر (لا) النافية للجنس يحذف كثيرا وبشيوعٍ إذا كان معلوما لدى السامع، كما قال ابن مالك في الألفية في البيت المشهور: وشاع في ذا الباب -يعني باب لا النافية للجنس:
وَشَاعَ فِي ذَا الْبَابِ إِسْقَاطُ ****** الخَبَر إِذَا الْمُرَادُ مَعْ سُقُوطِهِ ظَهَر
فإذا ظهر المراد مع السقوط جاز الإسقاط.
وسبب الإسقاط؛ إسقاط كلمة (حق) ، (لا إله حق إلا الله) أنّ المشركين لم ينازعوا في وجود إله مع الله - عز وجل -، وإنما نازعوا في أحقِّيةِ الله - عز وجل - بالعبادة دون غيره، وأنّ غيره لا يستحق العبادة.
فالنزاع لمَّا كان في الثاني دون الأول؛ يعني لمَّا كان في الاستحقاق دون الوجود، جاء هذا النفي بحذف الخبر لأن المراد مع سقوطه ظاهر وهو نفي الأحقية.
في (لا إله) صار الخبر راجعاً أو صار الخبر تقديره حق كما قال تعالى {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} [الحج:٩٢] ، وفي الآية الأخرى قال - عز وجل - {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} [لقمان:٣٠] ، فلما قال سبحانه {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} قرن بين أحقّية الله للعبادة وبطلان عبادة ما سواه، دلّ على أن المراد في كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) هو نفي استحقاق العبادة لأحد غير الله - عز وجل -.
فإذاً صار تقدير الخبر بكلمة (حق) صوابا من جهتين:
- الجهة الأولى:
أنّ النّزاع بين المشركين وبين الرسل كان في استحقاق العبادة لهذه الآلهة، ولم يكن في وجود الآلهة.
- الجهة الثانية:
أنّ الآية بل الآيات دلت على بطلان عبادة غير الله وعلى أحقية الله - عز وجل - بالعبادة دون ما سواه.
إذا تقرر ذلك فكما ذَكَرْتُ لك الخبر مقدر بكلمة (حق) ؛ (لا إله حق) .
و (لا) نافية للجنس، فنفت جنس استحقاق الآلهة للعبادة.
نفت جنس المعبودات الحقّة، فلا يوجد على الأرض ولا في السماء معبود عَبَدَهُ المشركون حق، ولكن المعبود الحق هو الله - عز وجل - وحده وهو الذي عبده أهل التوحيد.
وتقدير الخبر بـ (حق) كما ذكرنا لك هو المتعين خلافا لما عليه أهل الكلام المذموم، حيث قدروا الخبر بـ (موجود) أو بشبه الجملة بقولهم (في الوجود) (لا إله في الوجود) أو (لا إله موجود) .
وهذا منهم ليس من جهة الغلط النحوي، ولكن من جهة عدم فهمهم لمعنى (الإله) لأنهم فهموا من معنى (الإله) الرب، فنفوا وجود رب مع الله - عز وجل -، وجعلوا آية الأنبياء دليلا على ذلك وهي قوله - عز وجل - {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:٢٢] ، وكقوله في آية الإسراء {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء:٤٢] ، ففسروا آية الأنبياء وآية الإسراء بالأرباب؛ بالرب، ولكن هي في الآلهة كما هو ظاهر لفظها.
إذا تقرر ذلك فنقول: إن عبادة غير الله - عز وجل - إنما هي بالبغي والظلم والعدوان والتعدي لا بالأحقية.
(١) البخاري (٥٧٠٧) / مسلم (٥٩٢٠)