[المسألة الرابعة] :
المبتدعة -أعني المعتزلة من شابههم- احتجوا بحجتين:
١- الحجة الأولى: قالوا يقول الله تعالى {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:٣٩] ، وهذا يدل على أنَّ سَعْيَ الإنسان لنفسه.
وهذا الاحتجاج كذلك بعض أهل السنة احْتَجَّ به على هذا الشوكاني وبعض المعاصرين بأنه لا ينتفع البتة إلا بما سعاه فالولد من سعيه والصدقة الجارية من سعيه والعمل الصالح من سعيه والعلم النافع من سعيه، أما غير ذلك فلا يُعَدُّ من سعيه فلا ينتفع إلا بما سعى.
فإذاً احتج المبتدعة وطائفة من أهل السنة على مذهبهم بقوله تعالى {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} قالوا فلو كان ينتفع لكان سعيه لغيره وهذا يخالف ظاهر الآية.
والجواب عن ذلك من وجهين:
أ - الوجه الأول: أنَّ الله - عز وجل - في الآية قال {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ} اللام هنا كما هو معروف لام المِلك؛ يعني الإنسان لا يملك إلا سعيه، أما غيره فلا يملك سعي فلان، أحمد لا يملك سعي خالد؛ بل إذا تَقَرَّبَ خالد إلى ربه بقربة فإنَّ سعيه له، ثواب السعي له هو وليس للآخر، فاللام هذه لام الملك.
والمسألة التي ذكروا أنَّ الآية رَدّْ عليها أو حجة فيها هي أنَّ الآخر ينتفع من سعي الأول، وهذا لا تناقض بينها وبين هذه؛ لأنَّ اللام إذا كانت للملك فالأجر للأول؛ ولكن هو ينفع الثاني بما يتصدق به عليه أو ما ينفعه به.
ب - الوجه الثاني: أنَّ قوله {إِلَّا مَا سَعَى} السعي هنا لابد أن يُنْظَرْ إلى مفهومٍ واحد، وهو أنَّ أعظم الأسباب في السعي في أنْ ينتفع الميت من سعي الحي، أعظم الأسباب هي دخوله في الإيمان، فإنَّ الإيمان والإسلام إذا تحقق به العبد يوجب وَلَايَةْ بين المسلم والمسلم، ويوجِبُ محبة بين المؤمن والمؤمن، وهذا أعظم أسباب العلاقة بين الناس، فجميع العلائق تَقَطَّعَتْ إلا سبب الإيمان والإسلام، قال - عز وجل - {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:٧١] ، فإذاً دخل في اسم الإيمان فقد أتى بأعظم سبب من أجله ينفع إخوانه، وأيضاً من أجله ينفعه إخوانه.
فإذا كانت الولادة سبب بأن ينتفع الأب بسعي ولده، والعلم سبب فإنَّ أعظم الأسباب هو ما له من الإيمان بالرب - جل جلاله -، فبالله - عز وجل - انعقدت الأواصر، وفي الله - عز وجل - قامت الوسائط والوسائل، وبالله - عز وجل - تقاربت القلوب، وهذا يعني أنَّ أعظم الأسباب في الانتفاع في السعي ما سعاه المرء في نفسه ولنفسه وهو سبب الإيمان.
فإذاً الإيمان سَعْيٌ له، فقوله {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:٣٩] ، إذا قلنا: إنَّ العمل له لا لغيره -كما قلنا سابقا- ويكون سعيه إذاً لغيره سَعْيٌ في شيءٍ تَسَبَّبَ ذلك الغير فيه.
وانعقاد السبب في شيءٍ تَسَبَّبَ فيه هذا شيءٌ عمله العبد وتَسَبَّبَ فيه وهو الإيمان.
ولهذا صلاة الجنازة دعاء للميت وإذا أتى العبد المقابر دعا للأموات، واستَغْفَرَ لهم، هذا سببه الإيمان، فالمؤمن يصلي على المؤمن لأجل ما بينهما من وثيقة الإيمان ومن الحب في الله وما بينهما من الحقوق.
إذاً فالإحتجاج بالآية ليس بظاهر كما هو بَيِّنْ فيما ذكرنا.
٢ - الحجة الثانية: قالوا إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث» (١) ، فدلَّ على أنَّ العمل ينقطع، وإذا انقطع العمل هذا يعني أنه لا ينتفع بشيء.
والجواب عن ذلك: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال «انقطع عمله» ولم يقل: انقطع انتفاعه كما هي صورة المسألة التي نبحثها، ولم يقل أيضا: انقطع عمل غيره له، وإنما قال «انقطع عمله» ، فعمل الإنسان بالوفاة في دار التكليف انتهت، فعمله انقطع كما جاء في الحديث، أما عمل غيره وانتفاع هذا بعمل غيره فإنه لم ينقطع.
ويدل على ذلك أنَّ الثلاثة التي ذُكِرَتْ وهي الصدقة الجارية والعلم والولد الصالح لم يُذْكَرْ فيها الدعاء -دعاء الحي للميت في صلاة الجنازة-، وهي بالاتفاق نافعةٌ للميت وهي لم تدخل في هذه الثلاث، لأنها ليست بعمل للميت ولكنها عملٌ للحي وهو ينفع للميت.
(١) سبق ذكره (٥٨٧)