للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[المسألة الثانية] :

القَدَرْ هنا في قوله (مُقَدَّرَانِ عَلَى الْعِبَادِ) يعني أنَّهما لم يقعا استئنافاً؛ بل الله - عز وجل - يعلم ما سيحصل على العبد وكتب ذلك.

وذَكَرْتُ لك أنَّ الفِرَقْ المخالفة في هذه المسألة -في القَدَرْ - أنها طرفان:

١ - الجبرية:

والجبرية تنقسم إلى فرقتين:

@ الفرقة الأولى الجبرية الغلاة:

وهم الجهمية الذين يقولون: الله - عز وجل - يُجْبِرْ العبد على كل شيء، على الخير وعلى الشر، وإنما هو كالريشة في مهب الريح إلى آخره.

ويستدلون على ذلك بقوله - عز وجل - {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:١٧] ، يقولون إنَّ الذي رَمَى في الحقيقة هو الله - عز وجل - ولكن النبي صلى الله عليه وسلم ما رَمَى.

وهذا قول الغلاة منهم -غلاة الجبرية-، ويُرَدُّ عليهم في هذا الاستدلال على وجه الاختصار بجوابين:

& الجواب الأول: أنَّ الله - عز وجل - قال {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} يعني حين رميت فإنَّ الله - عز وجل - هو الذي رَمَى، وظاهر الآية كما هو واضح أنَّهُ أثْبَتَ للنبي صلى الله عليه وسلم رمياً فقال {إِذْ رَمَيْتَ} ، ونفى عنه رمياً بقوله {وَمَا رَمَيْتَ} ، والنظر الصحيح يدلُّ على أنَّهُ لا بد من الجمع ما بين الرمي المَنْفِي والرمي المُثْبَتْ، وهذا يتضح بأنَّ العبد إذا فَعَلَ الفعل فإنَّ الفعل الذي يفعله سَبَبٌ في حدوث المُسَبَّبْ، ولا يحصل المُسَبَّبْ ولا تحصل النتيجة بفعل العبد وحده في أكثر أو في جُلِّ المسائل؛ بل لابد من إعانة من الله - عز وجل -.

وهذا ظاهِرٌ في الرمي بخصوصه؛ لأنَّ الرمي عن بعد له ابتداءْ وله انتهاءْ، فابتداء الرمي من النبي صلى الله عليه وسلم لكن الانتهاء بأن يصيب رمي النبل أو رمي الحصاة أن يصيب فلاناً المشرك ويموت منه هذا من الله - عز وجل -؛ لأنَّ العبد ما يملك أن تكون رميته ماضية فتصيب.

ولهذا فيكون العبد هنا مُتَخَلِّصَاً مِن رؤيته لنفسه ومِن حَوْلِه وقُوَّتِهْ مع فعله، فأراد - عز وجل - أن يُعَلِّمَ نبيّه والمؤمنين أن يتخلصوا من إعجابهم ورؤيتهم لأفعالهم وأنفسهم، فقال: افعلوا ولكن الذي يَمُنُّ عليكم ويُسَدِّدْ رميكم هو الله - جل جلاله -.

فيكون إذاً معنى [.....] أصاب بما أعان على التسديد.

& الجواب الثاني: أنَّهُ لو قيل على قول الجبرية: إنَّ الله هو الذي يفعل الأشياء لكان تقدير الآية كما قاله جماعة أن يقال في كل فعل فعله العبد (ما فعله ولكن الله فعله) كأن تقول: ما صليت إذ صليت ولكن الله صلى، وما زكيت إذ زكيت ولكن الله زَكَّى، وما مشيت إذ مشيت ولكن الله مشى وهكذا في الأعمال القبيحة المشينة التي يُنَزَهْ الله - عز وجل - عنها بالإجماع كقول القائل -أعوذ بالله - وما سرقت إذ سرقت ولكن الله سرق، وما زنيت إذ زنيت ولكن الله إلى آخره، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

والقول إذا كان يلزم منه اللازم الباطل يدل على فساده وعدم اعتباره؛ لأنَّ القول الحقيق القول الصحيح القول الحق لا يلزم منه لوازم باطلة.

والقول الباطل هو الذي ينشأ عنه لوازم باطلة، ما الفرق بين هذه وهذه؟

@ الفرقة الثانية الجبرية المتوسطة:

والجبرية المتوسطة -أو يعني الذين هم ليسوا بالغلاة-، هم الذين يتوسطون، فيقولون: العبد مجبور باطناً لكنه في الظاهر مختار، يعني ظاهراً هو يَخْتَارُ فيمشي ويروح ويأتي للمسجد ويذهب إلى المكان الثاني باختياره؛ لكنَّهُ في الباطن مُجْبَرْ.

وهذا قول كثير من أهل الكلام والأشاعرة والماتريدية وجماعة ممن ينحون هذا المنحى بأنَّ الإنسان مجبور لكنه في الظاهر ليس بمجبور.

وإذا كان كذلك فإنهم يجعلون أفعال الإنسان له ولكنَّهَا عديمة الفائدة، لا معنى لها.

وهؤلاء هم الذين يقال عنهم نُفَاةْ الأسباب.

يعني إنَّ الإنسان إذا جامع زوجته فَحَمَلَتْ، يقولون: لم يحدث الحمل بالجماع.

إذاً كيف حدث الحمل؟

يقولون: أَحْدَثَ الله الحمل عند التقاء الرجل بالمرأة؛ لكن أنَّ ماء الرجل يلتقي بماء المرأة أو ببويضة المرأة ويحدث منهما حمل بما أجرى الله الأسباب عليه ينفون ذلك، ويطرُدُونَ هذا في كل شيء.

فيقولون: إنَّ فعل الإنسان فيما يفعله كحركة السّكين في قَطْعِهَا للورق أو قطعها للخبز أو قطعها لما تقطع، فيقولون بالتمثيل: إنَّ الله هو الذي كأنه يحمل السكين والسكين تتحرك هي التي تقطع؛ لكن في الواقع هي مجبورة على القطع وإن كانت ظاهرا تتحرك وقَطَعَتْ.

وهذا القول وهو قول هؤلاء مع زعمهم أنَّهُمْ عقلاء وأنَّهُمْ متكلمون وأنهم فلاسفة إلى آخره، هؤلاء قولهم هذا ينفيه العقل البسيط، فضلاً عن العقل الرصين، وأحْدَثُوا قولاً على هذا يسمى الكسب سيأتي بيانه في موضعه.

فالماء عندهم لم يُنْبِتْ الأرض، الله - عز وجل - يقول {فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [ق:٩]

{فَأَنْبَتْنَا} بإيش؟

بالماء.

<<  <   >  >>