ورؤية الله - جل جلاله - في جنات النعيم هي أعلا ما يَلتذُّ به أهل الجنة، فأهل الجنة أعلا نعيمهم رؤية وجه الله - عز وجل -، وذلك لأنه منتهى الجمال؛ ولأنّ في الرؤية الرضا، ولأنّ في الرؤية الإكرام، ولأنّ في الرؤية صلاح القلب برؤية محبوبه - عز وجل -. فكل أنواع الجمال التي يتعلق بها المتعلقون إنما هي بعض جمال صفات الرب - عز وجل -؛ يعني أنها شيء من جمال الصفات، كما أن رحمة الله - عز وجل - منها جزء يتراحم به الناس. وكذلك جمال الحق - عز وجل - في ذاته وصفاته وأفعاله من جماله أفاض على هذا الوجود، فصارت الأشياء جميلة لما أفاض عليها - عز وجل - من جماله ـ، كما قال ابن القيم رحمه الله: وهو الجميل على الحقيقة كيف لا وجمال سائر هذه الأكوان من بعض آثار الجميل فربها أولى وأجدر عند ذي العرفان فكل جمال يطمع إليه الطامع وتتعلق به نفس المُتَعَلِّقْ من جمال مخلوقات الدنيا أو من أنواع الجمال والتلذذ في الجنة فإنه ليس بشيء عند الرؤية والتلذذ بمن أفاض ذلك الجمال، وأفاض تلك اللذات على من شاء من خلقه. ولهذا قال بعض أهل العلم: إنَّ الرؤية لله - عز وجل - هي الغاية التي شَمَّرَ إليها المشمرون. فإذا كانت الجنة غاية في تشمير المشمر وفي تَعَبُّد العابد، فإنَّ أعلى نعيم الجنة وأعظم نعيم الجنة أن يرى المؤمنون ربهم - عز وجل -، كما قال {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:٢٢-٢٣] ، نظرت إلى الرحمان فاكتست الوجوه نظرة وجمالا وبهاء وحسنى تبارك ربنا وتعالى.
قال (والرُّؤْيةُ حقٌّ لأهلِ الجَنَّةِ) يعني أنَّ الرؤية ثابتة، وهي حق لا مِرْيَة فيه، ولا شك فيه، وهي حق لأهل الجنة فأهل الجنة يرون ربهم - عز وجل - ويتلذذون بذاك النعيم.
قال (بِغَيْرِ إحَاطَةٍ ولا كَيْفيَّةٍ) فنفى الإحاطة؛ لأنَّ رؤية الله - عز وجل - لا يمكن أن تكون بإحاطة للمرئي، كما قال سبحانه {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:١٠٣] ، فرؤية الله - عز وجل - رؤية عيان؛ لكن لا يمكن أن يُحَاطَ بالله - عز وجل - رؤية كما لا يمكن أن يحاط بالله - عز وجل - علماً {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:١١٠] ، ولكن أصل العلم بالله - عز وجل - ثابت، وكذلك الرؤية لا يحاط بها فلا تُدْرَكْ؛ لا تُدْرِكُ الربَّ - عز وجل - الأبصار، {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} ، ولكن أصل الرؤية موجود. فالمنفي إذاً في الآيات الإحاطة، وهذا ليس في الرؤية وحدها ولكن في كل صفات الله - عز وجل -؛ فإنَّ الله سبحانه بذاته وبصفاته لا يحاط به علماً ولا يحاط بالله - عز وجل - إدراكاً ورؤية. قال (ولا كَيْفيَّةٍ) يعني لا تُكيَّفُ رؤية الناس لربهم - عز وجل -؛ وإنّما هي حق على ما جاء في الأدلة، والكيفية منفية؛ لأنَّ رؤية الناس لله - عز وجل - -يعني بالناس المؤمنين في الجنة- فإنَّ رؤية المؤمنين لله - عز وجل - في الجنة تبع لصفاته، وصفات الرب - عز وجل - لا تُعْرَفُ كيفيتها. فرؤية الرائي للرب - عز وجل - في دار النعيم والخلود والسعادة ليست رؤية إحاطة ولا تُكَيَّفْ بكيفية: - لأنَّ الله - عز وجل - في علوه لا يُعْلَمُ كيف ذلك. - ولأنَّ الله - عز وجل - في رؤية المؤمنين إليه لا تُعْلَمُ كيفية ذلك. - ولأنَّ الله - عز وجل - في كشف الحجاب الذي يحجبه عن رؤية الخلق إليه لا تُعْلَمُ كيفية ذلك. فربنا أعلى وأعظم مما يدور في الذهن أو مما يحوم عليه الخاطر أو يتوهمه المتوهم. فلذلك نُثْبِتُ الرؤية دون نظر في كيف تكون هذه الرؤية، لكنها رؤية بالعيان رؤية بالعينين ليست رؤية قلب، وإنما هي رؤية عينين، كما سيأتي ذلك في الأدلة.
وكما استدل المصنف رحمه الله بقوله (كما نَطق به كتابُ ربِّنا) ذكرنا لكم أنَّ هذا من الذي استعمله أهل العلم كثيراً أن يُنْسَبَ القول والنطق والكلام للقرآن يعنون بذلك من تكلم به وهو الرب - عز وجل -، فقوله (كما نَطق به كتابُ ربِّنا) لا بأس به ويستعمله كثير من أهل العلم من المحققين والأئمة. قال - عز وجل - ( {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:٢٢-٢٣] ) هذه الآية فيها إثبات رؤية أهل الجنة للرب - عز وجل - وأنَّ وجوه من رأى الرب - عز وجل - ستكون (نَاضِرَةٌ) يعني حَسَنَة بَهِيَّة تعلوها النُّضرة والنَّضرة، كما دعا النبي صلى الله عليه وسلم بقوله (نضّر الله امرَأً -امرؤا- سمع مقالتي فأداها كما سمعها) (١) الحديث، دعا له بنضارة الوجه يعني بالحسن والبهاء والزينة والجمال وهذا إنما هو لأهل الإيمان. {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} يعني يوم القيامة تلك الوجوه ناضرة حسنة بهية، وتلك الوجوه {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ناظرة إلى الرب - عز وجل -؛ يعني رائية ربها - عز وجل -، تنظر الوجوه إلى الرب - عز وجل -. ووجه استشهاد المصنف بآية سورة القيامة من ثلاثة وجوه: ١ - الوجه الأول: أنَّ النظر عُدِّي بـ (إِلَى) ، وتعدية النظر بـ (إِلَى) تفيد أنَّ معناه الرؤية -كما سيأتي بيان ذلك في المسائل-. قال ناظرة إلى ربها، وناظرة،والنظر يأتي لمعاني فإذا عدي بـ (إِلَى) كان المراد رؤية العِيَان. ٢ - الوجه الثاني: أنه جَعَلَ النظر إلى الرب - عز وجل - مضافاً على الوجوه، فجعل الوجوه هي التي تنظر إلى ربها، قال {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} فالوجوه ناظرة إلى ربها، ومحل الرؤية والنظر في الوجه هو العينان. ٣ - الوجه الثالث: أنه قال {يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} ، والنضرة: وهي الحسن والبهاء والسرور والحبور الذي يعلو الوجوه والاطمئنان، هذا إنما يكون بالرؤية لأنها منتهى النعيم واللذة، لا من الانتظار الذي لا يُدْرَى هل بعده نعيم أم بعده غير ذلك. فكون الأوجُهْ بالنظر صارت ناضرة، يعني حَسَنَة بَهِيَّة دَلَّ على أَنَّ هذا إنما هو الرؤية لأنه أثر الرؤية، وأما مجرد الانتظار فليس كل مُنْتَظِرٍ للرب - عز وجل - يُنضَّر وجهه، بل مِنَ المُنتظِرْ مَنْ يكربس في جهنم والعياذ بالله، وسيأتي مزيد بيان أوجه الاستدلال في المسائل إن شاء الله تعالى.
قال (وتَفْسيرُهُ عَلى ما أرادَهُ الله تَعالَى وَعَلِمَهُ) (تَفْسيرُهُ) يعني تفسير النظر إلى الرب - عز وجل - عَلى ما أرادَهُ الله تَعالَى وَعَلِمَهُ. التفسير هنا يراد به أحد نوعي التفسير: وذلك أنَّهُ جَعَلَ الرؤية حق ونفى في الرؤية التي هي حق ويثبتها: الإحاطة والكيفية. فدل على أنَّهُ يُثْبِتُ معنى الرؤية الذي يعلمه السامع للكلام من ظاهر الكلام. فلما نفى الإحاطة والكيفية دلَّ على أَنَّ قوله (الرُّؤْيةُ حقٌّ لأهلِ الجَنَّةِ) أَنَّ الرؤية على ظاهرها. وهذا هو المعنى الأول للأشياء، هو المعنى المتبادر للذهن في الصفات. نقول هذا على ما يتبادر إلى الذهن، فصفة الرحمة معروفة، وصفة الكلام معروف إلى آخره. والنوع الثاني من التفسير هو التفسير لتمام المعنى وللكيفية. فإنَّ تمام المعنى والكيفية لا يعلمها إلا الله - عز وجل -، كما قال سبحانه {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:٧] ، على مَنْ وَقَفَ هنا، فأراد بالتأويل الذي هو التفسير تمام المعنى والكيفية. فإذاً تفسير النظر إلى وجه الله الكريم، تفسير النظر إلى الرب الكريم - عز وجل - بتمام معناه لا نعلمه، تفسيره على ما أراده الله تعالى، هو حق، وتمام المعنى لا نعلمه كيف ذلك. كيف تُعْطَى العيون القدرة. النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: أرأيت ربك؟ قال (نُورٌ أَنّىَ أَرَاهُ) ؟ (٢) وقال (رَأَيْتُ نُوراً) (٣) كما في الصحيح من حديث أبي ذر، وموسى عليه السلام سأل ربه قال {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف:١٤٣] ، قالت طائفة من السلف: كَشَفَ الله - عز وجل - من الحجاب قدر هذه؛ أنملة واحدة، فساح الجبل، فَرُدَّ طلب الرؤية على موسى لأنَّهُ لن يقدر على ذلك،كذلك قال صلى الله عليه وسلم (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سُبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) (٤) . فإذاً الناس ليس عندهم القدرة على الرؤية، فكيف تكون عندهم القدرة على الرؤية؟ وكيف تكون قُواهُم؟ وكيف تكون قُدَرُهُم؟ وكيف يُعطون؟ وعلى أي حال تكون الرؤية وتفسير ذلك على تمام معناه؟ هذا كله لا يُعْلَمْ كما قال (تَفْسيرُهُ) -يعني بتمام معناه بما يزيد على إثبات الرؤية وأنها حق - على ما أراد الله تعالى وعلمه، لا ندخل في ذلك متأولين ولا متوهمين، كما ذكر بعد ذلك. وهذه الكلمة تشبه ما ذكره ابن قدامة وغيره عن الإمام أحمد وعن الإمام الشافعي في الآيات والأحاديث التي فيها إثبات الصفات؛ صفات الرب - عز وجل -، أنهم قالوا: أمروها كما جاءت لا كيف ولا معنى. وهذه استدل بها بعض أهل التأويل على أنهم - يعني الإمامين - يعنون بذلك التأويل. لا كيف فلا نكيف الصفات. ولا معنى لا نثبت المعنى بل نفوض المعنى والكيفية. وهذا ليس بمراد، بل المراد من قولهم لا كيف ولا معنى أنَّ إمرار الصفات كما جاءت معناه إثبات الصفات على ما دل عليه ظاهر الكلام؛ لأنَّ الصفة لا تُثْبِتُهَا إلا بما دل عليه ظاهر الكلام. ونفي الكيفية عن الصفة يعني الكيفية التي نحا إليها المجسمة. ونَفْيُ المعنى بقولهم لا كيف ولا معنى؛ يعني المعنى الذي ذهب إليه المؤؤلة الذي يخالف ظاهر الكلام، ويخالف الإمرار كما جاءت. فإذاً الإمرار كما جاءت بما يُفْهَمْ، فمن كيَّف فقد صار مجسماً أو صار مكيفاً، ومن تأول المعنى فقد دخل في الكلام بما يخرج اللفظ عن ظاهره. لهذا قول القائل لا كيف ولا معنى؛ يعني لا كيف كما يقول المجسمة ولا معنى كما يقول المؤولة بما يُخْرِجُ تلك الآيات والأحاديث عن ظاهرها المتبادر منها من إثبات صفات الرب - عز وجل - والأمور الغيبية بعامة، وهذا كما قال هنا (تَفْسيرُهُ عَلى ما أرادَهُ الله تَعالَى وَعَلِمَهُ) .
قال (وكلُّ ما جاءَ في ذَلك مِنَ الحديث الصَّحيح عَن الرسولِ صلى الله عليه وسلم فهو كما قال) وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم رؤية المؤمنين لربهم - عز وجل - بالتواتر. عُدَّ ذلك متواترا في أكثر من عشرين حديثاً جاءت عن المصطفي صلى الله عليه وسلم في إثبات الرؤية، بأحاديث متنوعة، مختلفة في ألفاظها وفي طرقها عن عدد كبير من الصحابة، فهي متواترة. ولهذا كَفَّرَ طائفة من أهل السنة من أنكر رؤية الرب - عز وجل - لأنه إنكار للمتواتر من القرآن وللمتواتر من سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
قال (فهو كما قال، وَمَعناهُ على ما أراد، لا نَدْخلُ في ذلك مُتَأَوِّلين بِآرَائنا، ولا مُتَوَهِّمِينَ بأهْوَائنَا) . (لا نَدْخلُ في ذلك مُتَأَوِّلين بِآرَائنا) يعني نُخْرِجْ هذا الظاهر بتأويل. (ولا مُتَوَهِّمِينَ بأهْوَائنَا) بما يجعل للرؤية كيفية مُعَيَّنَة، فَنُثْبِتْ الرؤية بكيفية أو لأجل الكيفية ننفي الرؤية كما ذهب إليه المعتزلة وكما ذهب إليه المجسمة. فالمعتزلة توهموا أنَّ الرؤية تكون بكيفية فنفوا، والمجسمة توَهَّمُوا أَنَّ الرؤية تكون بكيفية فأثبتوها على تلك الكيفية. إذا تبين لك هذا المعنى العام لكلام الماتن رحمه اللهففي هذه المسألة العظيمة، مسألة الرؤية مسائل: