[المسألة الثالثة] :
نبوة الأنبياء أو رسالة الرسل بما تَحْصُل؟ وكيف يُعْرَفُ صدقهم؟ وما الفرق ما بين النبي والرسول وبين عامة الناس أو من يَدَّعِي أَنَّهُ نبي أو رسول أو من يأتي بالأخبار المغيبة أو يجري على يديه شيء من الخوارق؟
والجواب عن ذلك: أنَّ المتكلمين في العقائد نظروا في هذا على جهات من النظر.
ونُقَدِّمُ قول غير أهل السنة، ونُبَيِّنْ لكم قول السلف وأهل السنة والجماعة في هذه المسألة العظيمة.
وهي من المسائل التي يقل تقريرها في كتب الاعتقاد مُفَصَّلَة.
فنقول: إنَّ طريقة إثبات نبوة الأنبياء وإرسال الرسل للناس فيه مذاهب:
١ - المذهب الأول:
أنَّ الرسل والأنبياء لديهم استعدادات نفسية راجعة إلى القوى الثلاث والصفات الثلاث وهي السمع والبصر والقلب، فإنه يكون عنده قوة في سمعه، فيسمع الكلام؛ كلام الملأ الأعلى، وعنده قوة في قلبه، فيكون عنده تخيلات أو يتصور ما هو غير مرئي، وعنده بصر أيضا قوي يبصر ما لا يبصره غيره.
وهذه طريقة باطلة، وهي طريقة الفلاسفة الذين يجعلون النبوة من جهة الاستعدادات البشرية، لا من جهة أنها وحي وإكرام واصطفاء من الله جل جلاله.
٢ - المذهب الثاني:
قول من يقول إنَّ النبوة والرسالة طريق إثباتها والدليل عليها هو المعجزات.
وهذا قول المعتزلة والأشاعرة وطوائف من المتكلمين، وتبعهم ابن حزم وجماعة، وجعلوا الفرق ما بين النبي وغيره هو أنَّ النبي يجري على يديه خوارق العادات.
فمنهم من التزم -وهم المعتزلة وابن حزم- في أنَّه ما دام الفرق هو خوارق العادات وهي المعجزات فإذاً لا يُثْبَتُ خارقٌ لغير نبي.
فأنكروا السحر والكهانة، وأنكروا كرامات الأولياء، وأنكروا ما يجري من الخوارق؛ لأجل أن لا يلتبس هذا بهذا وجعلوا ذلك مجرد تخييل في كل أحواله.
وأما الأشاعرة فجعلوا المسألة مختلفة، وسيأتي تفصيلها في موضعها إن شاء الله عند كرامات الأولياء.
٣ - المذهب الثالث:
هو مذهب أهل السنة والجماعة والسلف الصالح فيما قرره أئمتهم وهو أنَّ النبوة والرسالة دليلها وبرهانها متنوع، ولا يُحصرُ القول بأنها من جهة المعجزات الحسية التي تُرى أو تجري على يدي النبي والولي.
فمن الأدلة والبراهين لإثبات النبوة والرسالة:
- أولاً: الآيات والبراهين.
- ثانياً: ما يجري من أحوال النبي في خَبَرِهِ وأمره ونهيه وقوله وفعله مما يكون دالاًّ على صدقه بالقطع.
- ثالثاً: أنَّ الله - عز وجل - ينصر أنبياءه وأولياءه ويمكِّن لهم ويخذل مدعي النبوة ويُبيد أولئك ولا يجعل لهم انتشارا كبيرا.
وهذه ثلاثة أصول.
@ أما الأول: فمعناه أنَّ من قَرَّرَ نبوة الأنبياء عن طريق المعجزات، فإننا نوافقهم على ذلك؛ لكنَّ أهل السنة لا يجعلونه دليلاً واحداً، لا يجعلونه دليلاً فرداً؛ بل يجعلونه من ضمن الدلائل على النبوة.
وهذا الدليل وهو دليل المُعْجِزَات -كما يُسَمَّى- يُعَبِّرْ عنه أهل السنة بقولهم الآيات والبراهين، وذلك لأنَّ لفظ (المُعْجِزْ) لم يرد في الكتاب ولا في السنة، لفظ (المُعْجِزَةْ) وإنما جاء في النصوص الآية والبرهان {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} ، {فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} [النمل:١٢] ، وقال {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ} [القصص:٣٢] ، {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [البقرة:١١١] ، ونحو ذلك من الآيات التي تدل على أنَّ ما يؤتاه الأنبياء والرسل إنما هو آيات وبراهين.
وبعض أهل العلم جعل لفظ المُعْجِزْ نتيجة في أنَّ آية النبي وبرهان النبوة مُعْجِزْ، لكن لفظ الإعجاز فيه إجمال.
وذلك لأنه مُعْجِزٌ لمن؟
فيه إجمال وفيه إبهام.
فإعجاز ما يحصل لمن هو معجز؟
فإذا قلنا مُعْجِزْ لبني جنسه فهذا حال، مُعْجِزْ لبني آدم فهذا حال، معجز للجن والإنس فهذا حال، معجز لكافة الورى فهذا حال.
ولهذا جعل المعتزلة والأشاعرة في الخلاف ما بينهم في المعجزات جاءت من هذه الجهة:
أَنَّ لفظ معجز اختلفوا فيه، معجز لمن؟
كما سيأتي تقريره في موضعه إن شاء الله.
ولهذا نعدل عن لفظ الإعجاز إلى لفظ الآية والبرهان.
ونقول الآية والبرهان التي يؤتاها الرسول والنبي للدِّلالة على صدقه تكون معجزة للجن والإنس جميعاً.
فما آتاه الله - عز وجل - محمدا صلى الله عليه وسلم يكون مُعْجِزَاً للجن والإنس جميعا، كما قال تعالى {قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:٨٨] .
أما إعجاز بعض الإنس دون بعض، أو الإنس دون الجن، فهذا هو الذي يدخل في الخوارق ويدخل في أنواع ما يحصل على أيدي السحرة والكهنة وما أشبه ذلك.
أما الفرق ما بين الآية والبرهان الدال على صدق النبي مع ما يؤتاه أهل الخوارق، أنَّه هل هو معجز عامة الجن والإنس أم لا؟
فإن كان معجز لعامة الجن والإنس فهو دليل الرسالة والنبوة.