قال رحمه الله هنا (وَنُؤْمِنُ ... بِعَذَابِ الْقَبْرِ لِمَنْ كَانَ لَهُ أَهْلًا، وَسُؤَالِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ فِي قَبْرِهِ عَنْ رَبِّهِ وَدِينِهِ وَنَبِيِّهِ) هذه الجملة تقريرٌ لما يجب الإيمان به بما دلّ عليه النص من الكتاب والسنة من أنَّ القبر يُعَذَّبُ أهلُه فيه ويُنَعَّمُ أهله فيه، فما بين مُعَذَّبٍ ومُنَعَّم، وما بين مُعَذَّبٍ دائماً وما بين مُنَعَّم دائماً. وهذا الأصل في الإيمان بعذاب القبر وبسؤال منكر ونكير وفتنة القبر، قد دَلَّ عليه القرآن والسنة وتظاهرت الأدلة وتواترت من سنة النبي صلى الله عليه وسلم في الدلالة على أنَّ القبر والبرزخ يكون فيه عذاب ويكون فيه نعيم للإنسان المكلَّف على ما يَحْكُمُ الله - عز وجل - به على الميت. وأصل هذه المسألة في إيرادها في العقائد لأجل أنَّ طائفةً من المعتزلة والجهمية والفلاسفة وأهل الكلام يُنْكِرُونَ عذاب القبر ويُنْكِرُونَ السؤال والفتنة، وذلك لعدم إيمانهم بِدِلَالَةِ السنة والحديث على ذلك، ويتأولون ما جاء في القرآن مما يَدُلُّ على عذاب القبر. ومن جنس المسائل السابقة فإنّ تقرير هذه المسألة في العقائد له أوجه: ١- الوجه الأول: أنَّ عذاب القبر وفتنة القبر أمرٌ غيبي، والأمور الغيبية مجالها الاعتقاد؛ لأنَّهَا لا تُدرَك بالنظائر ولا تُدرِكها العقول؛ بل تَحَارُ فيها العقول، فيجب الإيمان بها والتسليم على نحو ما جاء في الخبر الصادق في الوحي. ٢- الوجه الثاني: أنَّ الأدلة من الكتاب والسنة دَلَّتْ على حصول العذاب في القبر والنعيم فيه، وعلى السؤال والفتنة في القبر، وهذه في كثرتها معنىً تَدُلُّ على تواتر الدليل بثبوت العذاب وأنَّ دار البرزخ محل للنعيم وللعذاب على الإنسان، وإذا كان كذلك فيجب التسليم لما دَلَّ عليه الدليل، فكيف إذا كان متواترا معنىً أو متواتراً لفظاً وهو أعلاه. ٣- الوجه الثالث: أنَّ المخالفين خَالَفُوا في هذا ممن يُحَكِّمُونَ العقل ويَرُدُّونَ عَالَم الغيب إلى عَالَم الشهادة، ويقيسون الأمور الغيبية على الأمور المُشَاهَدَة، ويُحَكِّمُونَ العقل فيما جاءت به النصوص في أنَّ هذا يُعْقَلْ وأنَّ هذا لا يُعْقَلْ فيحملونه على العقول. فلأجل مخالفة الضالين ممن ذكرنا من طوائف من الجهمية والمعتزلة والفلاسفة وأهل الكلام وبعض فقهاء السنة إمَّا في كل المسألة أو في بعضها نَصَّ عليها وصارت من مسائل العقائد التي يُعْلِنُ أهل السنة الإيمان بها وتقرير ما دلت عليه. وكما ذكر لك الطحاوي هنا أنَّ هذا الإيمان سِمَةٌ لأهل السنة والجماعة المُسَلِّمِينَ للنُّصُوص، وأنه تَبَعٌ لما جاء في الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونَصَّ الطحاوي على الأخبار ولم يذكر الآيات؛ لأنَّ الأخبار متواترة معنىً في الدلالة عليه، وأما الآيات فإنها قليلة وهي مجال للأخذ والتأويل عند من تَأَوَّلَ، والحجة هنا ظاهرة فيما تواترت بها السنة. فيجب أن يكون على ما أوْرَدَهُ هنا يجب أن يكون الاستدلال قائماً على الكتاب والسنة؛ لكن إن كان المُعَارِضْ يَتَأَوَّلُ أحد الأدلة فإنه يُسْتَدَلُّ عليه بما لا يكون مجالاً لِتَأَوُّلِهِ فيه، وهذا هو الذي صنعه الطحاوي رحمه الله هنا. والأَدِلَّة التي دَلَّتْ على هذا الأصل من كتاب الله - عز وجل - ومن السنة كثيرة، يمكن أن تُراجَع في كتاب الروح للعلامة ابن القيم أو في شرح ابن أبي العز لهذا المتن، ونذكرمنها: