[المسألة السادسة] :
في قول الطحاوي رحمه الله (وَحُبُّهُم دِينٌ وإيمَانٌ وإحْسَانٌ) :
١- أولاً: حبُّ الصحابة دِيْنْ: لأنَّ الله - عز وجل - أثنى عليهم، وتصديق خبر الله - عز وجل - وانعقاد الوَلَاية لا شك أنَّ هذا دين؛ بل من أعظم الدين.
والصحابة اجتمع ذلك في حقهم من ناحيتين:
أ - الناحية الأولى: أنَّ الله عَقَدَ الوَلَاية بين المؤمنين فقال {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:٧١] ومعنى الوَلَاية المحبة والنصرة، وأعظم المؤمنين إيماناً هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلهم من الوَلَاية والمحبة والنصرة أعلاها، كذلك قال الله - عز وجل - {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر:١٠] فأثنى على هؤلاء لأجل اتِّصَافِهِمْ بالدين ولاشك أنَّ حب الصحابة من هذه الجهة دين.
ب - الناحية الثانية أنَّ تصديق خبر الله - عز وجل - فيما أثنى الله به عليهم في آياتٍ كثيرة، سواءٌ ما أثنى به على المهاجرين والأنصار كجنس، أو ما أثنى به على أهل بيعة الرضوان، أو ما أثنى به على السابقين، أو ما أثنى به على جميع مَنْ مَعَ النبي صلى الله عليه وسلم {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} هذا يشمل الجميع، {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} هؤلاء حُبُّهُم لثناء الله - عز وجل - وتصديق خبر الله هذا لاشك أنَّهُ دين، وقال الله - عز وجل - في آخر سورة الفتح {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:٢٩] .
وحرف الجر في قول الله - عز وجل - {مِنْهُم} (مِنْ) هذه، أهل السنة والجماعة؛ بل أهل السنة الذين يخالفون الرافضة والخوارج يجعلون (مِنْ) هنا بَيَانِيَّةْ لبيان الجنس، والآخرون من الرافضة يجعلونها تبعيضية، وهي لبيان الجنس.
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} لو لم يقل {مِنْهُم} لصارت تشمل كل مؤمن عَمِلَ الصالحات، وهذا يدخل فيه أجناس التابعين وتبع التابعين ومن وَلِيَهُمْ إلى يوم القيامة، فأراد تخصيص جنس الصحابة بهذا الفضل وهو الوعد بالمغفرة والأجر العظيم، فقال {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ليس على الإطلاق {مِنْهُم} يعني مِنَ الصحابة مِنَ الذين مع محمد {مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} .
وليست (مِنْ) هاهنا تبعيضية لأنَّها لا تنطبق عليها شروط التبعيض في هذا الموطن وإنما فسَّرَهَا بأنها تبعيضية الرافضة ومن شابههم، وهو الموجود في تفاسيرهم، يريدون أن يكون هذا الوعد لبعض الصحابة لا لكل الصحابة.
و (مِنْ) هنا لبيان الجنس وليست لبيان وليست للتبعيض كقولك: الكتاب من ورق، هذا لبيان جنسه أو ما شابه ذلك.
أما التبعيض فهذا لا يكون في الوصف، يكون الثاني بعض الأول.
وهنا جاء وعداً بالوصف فقال {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [النور:٥٥] فلا يكون التبعيض في مثل هذا السياق.
لهذا كان عامة بل كان كل مفسري السلف والأئمة على أنَّ (من) هنا لبيان الجنس لاتفاق آخر الآية مع أول الآية.
٢- ثانياً: أن حبهم إيمان: لأنَّهُ واجبٌ أَوجَبَهُ الله - عز وجل -، وما أَوجَبَهُ الله - عز وجل - فهو من شُعَبِ الإيمان، فَحُبُّ الصحابة إيمان، والنبي صلى الله عليه وسلم نَصَّ في بعض الصحابة على أَنَّهُ إِيمانْ بقوله «آية الإيمان حُبُّ الأنصار، وآية النفاق بُغْضُ الأنصار» (١) .
٣- ثالثاً: أنّّ حبَّهم إحْسَانٌ: لأنَّهُ يدل على أنَّ المُحِبْ لهم مُحْسِنْ في دينه وأتى بما يجب عليه وما يتقرب به إلى ربه من أنواع إحسانه وصِدْقِهِ في دينه.
طبعاً (وَحُبُّهُم دِينٌ وإيمَانٌ وإحْسَانٌ) كل هذه تتبعض، ليست شيئاً واحداً، فالناس في حب الصحابة يختلفون، وأجرهم على قدر كثرة محبتهم ونصرتهم وفقههم لفضائلهم.
(١) البخاري (١٧) / مسلم (١٢٨)