يَتَحَكَّمُ الهوى في علاقات الناس بعضهم ببعض، يَتَحَكَّمُ الهوى في العبادة، واحد يريد أن يخرج من التّكاليف، يريد أن يعمل ما يشاء، يفعل ما يشاء، يقتل، يسرق، يفعل ما يشاء، الهوى يدخل في حرّية الإنسان، يدخل في هل يتعبّد أم لا يتعبّد؟، في علاقته بأهله، في علاقته بمجتمعه، في علاقته بأسرته، إلى آخره، هذه أشياء يدخلها الهوى؛ لهذا جاءت الشريعة بضبطها.
إذاً فنقول: التجربة في العقليات صحيحة لكن فيما لا يَدْخُلُهُ الهوى، أما ما يَدْخُلُهُ الهوى فلا تصح التجارب فيه، لابد أن يُتلقَّى من حَكَمٍ يفرض على الأهواء لا تتنازع فيه ويسلمون له، ولهذا قال - عز وجل - {وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [المؤمنون:٧١] ؛ لأنَّ الأهواء غير منضبطة، والحق واحد لا يخضع لهوى.
تجارب المجربين تصلح إذاً فيما يمكن عمل التجارب عليه لكن الأمور الكونيةمثل الغيب هل ثَم سلطان للتجربة عليها؟
لا، الأمور الكونية لا مجال للتجربة عليها ولهذا قال من قال من العلماء المعاصرين في الأمور الدنيوية -الغربيين وغيرهم من الحذاق-: إنَّ المرء كلما أوْغل في العلم بالكونيات كلما ازداد معرفة بأنَّ فيها أسرارا لا تُدْرَكْ.
ولهذا الأمور الكونية صعب أن تخوض فيها بإدراكٍ تام، تجارب لكن ستبقى تجارب، وإذا كانت ليست مُسَلّمات، فإذاً لا يمكن أن نُخضع لها الحق المطلق.
٣ - النوع الثالث من البرهان العقلي الذي اعتمدته المدرسة العقلية: (أنَّ المتأخر يسلّم للسابق) :
أنظر مثلاً للمعتزلة، المعتزلة في أصلهم سَلَّمُوا للفلاسفة بصحّة أنواع البرهان العقلي، فإذاً ثَمَّ تقليد.
المتأخرون سلّموا لمن قبلهم، الأشاعرة سلّموا للأولين في البرهان، إذاً ثَمَّ تقليد.
فقولهم برهان عقلي، وهذا عقل؛ لأنَّ الشرائع مبنية على التقليد، هذا غير صحيح منطقياً؛ لأنه أيضاً أهل البرهان العقلي يسَلِّمُونَ لأوائلهم بصحة في البرهان.
فيبتدئ من برهان الأشعري، الأشعري مثلاً بدأ ووصل إلى شيء، فيبتدئ أصحابه من النقطة التي وصل إليها، وينطلقون منها.
فإذاً قولهم العقليات تُخْلِي من التقليد ومن التسليم ومن الاستسلام وتطلق الحرية، فهذا غير صحيح.
لأنَّهُ ما من أحد إلا ويُسَلِّمُ لمقدمات من سبقه، فإذا كان التسليم لبشر ليس معصوماً من الخطأ، فالتسليم لمن هو معصوم من الخطأ من جهة البرهان أَوْلَى.
فإذا كانت المسألة مسألة تسليم واستسلام، فالتسليم لمن لا يُخْطِئْ أَوْلَى.
لهذا تجد أنَّ من المتأخرين -حتى في العصر الحاضر من أهل العقليات- تجد أنهم يحيلونك على شيء؛ لكن هذا الشيء بنوه على التقليد، يقولون طبعا هو كذا، طبعا في عُرْفِ من؟
لماذا هذا صار طبعاً؟
لأنه شيء غير مشكوك فيه
لماذا صار غير مشكوك فيه؟
إذا كان المرجع إلى حس فلا مجادلة إلى الحسيات.
إذا كان المرجع على أمور تجريبية أو إلى نظريات فإنَّ الذي يُحيل الأمور في الاستسلام على الدّين أَوْلى فيمن يحيل الأمور في الاستسلام على أصحاب العقليات.
ذلك لأنَّ أصحاب العقليات يُقَلِّدُ بعضهم بعضاً، أما أصحاب الديانات فصحيح نقول المتأخر يسلم للأول براهينه ولكنه يصل إلى برهان يقيني هو الكتاب والسنة.
وأما تقليد العقليات فإذا كانت راجعة إلى أشياء صحيحة فهذا تسليم لاشك فيه ما نجادل فيه؛ لكنهم في كثير من مباحثهم يتابع المتأخر الأول.
أنظر مثلاً إلى قضية ترتيب الأفلاك، الناس قرون بل آلاف منذ بدأ اليونان الكلام على ترتيب الأرض والشمس والكواكب السبعة في الكون وهم على نحو ما، إلى وقت قريب تَغَيَّر.
هذه الأمم آلاف السنين التي مَرَّت من الفلاسفة والفلكيين الإسلاميين والفلكيين اليونان والمدرسة الرومانية إلى آخره، هذه الأمم والمدرسة الهندية في الأمور العلمية والفلك، التتابع في الطب كذلك، كلّ هذه ألم يسلم المتأخر للأول؟
سَلَّمَ له، وظَهَرَ الآن أَنَّ تلك الأشياء جميعاً غير صحيحة، لماذا كانت غير صحيحة؟
لأنهم -كما ذكرنا لك- وضعوا تجارُباً؛ لكن التجارُب صارت على أمور خارجة عن حيز التجربة الذي يُنتج نتائج صحيحة.
فهذه مسألة عظيمة ما نحب نطيل فيها، هذه المسألة راجعة إلى البرهان الحقّ في أنَّ أقوى البراهين هو البرهان الديني.
لذلك نقول لك: هذه الثلاثة من الأشياء العقلية:
- البرهان الحسي نقول صحيح، ما فيه إشكال فيه، وكل المعرفة قامت على هذه البراهين الحسية.
- برهان التجربة منقسم إلى ما يكون ثَمَّ تجربة ناجحة فيه، وما لا تنجح فيه التجربة.
- برهان متابعة اللاحق للسابق، هذا أيضاً لابد يخضع للدراسة لأنه قد يكون الأول مخطئاً في برهانه العقلي، كما هي كثير من الأمور العلمية والنظرية، فضلا عن أمور الغيبيات والإلهيات.