يأتي النحاة ويوجِّهُونَ ذلك، وثَمَّ كتب كثيرة في علل النحو لا تُحْصَى، وهي عدة مدارس في تعليل الأحكام النحوية.
من تعليلاتهم يقولون: إنَّ العرب من عادتها أن تكرم الضيف، فلما أتت اللام ضيفاً على محمد قادم كان لها حق الصدارة، فلما أتى الضيف الجديد إنَّ تأخرت اللام؛ لأنها كانت في الجملة موجودة فتأخرت.
يعني هذه كلها التماسات.
كذلك إذا قال لماذا (كَانَ) نصبت الخبر ورفعت الاسم؟
لأنها مشبهة بالفعل وهي فعل ماضي ناقص، وكذلك أخواتها.
(إن وأخواتها) : إنَّ وأَنَّ وليس إلى آخره، هذه لماذا انعكست فيها القضية؛ مُخالِفةً لـ (كان) ؟
لأنها تَقَعَّدَت (كان) وهذه وهذه بعضها يشبه بعضاً، يعني (كان وأخواتها) و (إن وأخواتها) بالدخول على الجملة الاسمية، فَفَرَّقُوا بينها.
إذاً كل هذا نخلص منه إلى شيء مهم جداً في علم اللغة وهو أنَّ صنعة العلوم إنما أتت بعد انتهاء اللغة.
فإذاً هي التماس.
فإذا قال لك العالم: إنَّ كلمة (الله) كانت إله ثم أُدْخِلَتْ فإنَّ هذا من جهة التحليل، وليس أنَّ العرب صنعت ذلك على مراحل؛ لكن هذا من جهة التحليل.
يقول لك: ولكثرة الاستعمال صارت كذا، يعني هذا من جهة التحليل.
يعني اعكس المسألة وقل: لأنَّ لفظ الجلالة الله موضوع لكثرة الاستعمال فجاء على لفظ الله ولم يأت على لفظ الإله؛ لأنَّه موضوع لكثرة الاستعمال.
* وهذه انتبه لها قاعدة في اللغة.
ولهذا يخطئ بعض الذين يعتنون بمباحث الاشتقاق ويستغربون بعضها من هذه الجهة، فيظنون أنَّ العرب اجتمعت ووضعت للغتها قواعد.
والصحيح الذي لا ينبغي المحيد عنه: أنه ليس ثَمَّ وَضْعْ في اللغة، وعِلْمُ الوَضْعْ الذي يُسَمَّى علم الوضع إنما هو تقريب للعلوم التي صُنِّفَت في هذه الأمة، وليس هو وَضْعْ العرب، فإنَّ العرب ما اجتمعت، العرب متفرقة، العرب كانت في اليمن ثم تَفَرَّقَت، والعرب القديمة - العرب العاربة- ثم العرب المستعربة تفرقت، واللغة بدأت تتدرج وتنمو وتصل إلى مراحل في نموها.
فاللغة مثل الإنسان، اللغة مثل الإنسان، مرَّ به طفولة، ثم مرَّ به شباب، ثم مرّ به فتوة وقوة ثم يمرُّ به اكتهال إلى آخره، فهذه اللغات تمر بهذه المراحل.
أما اللغة العربية فثبتت وقويت ولم تمر بها فترة الكهولة التي تُسَمَّى فترة الكهولة؛ لأنَّ فيها القرآن، القرآن هو الذي أبقاها حية قوية في شبابها.
فلهذا كل ما تراه من التعليلات عند النحويين أو الذين يعتنون بالنحو ويوغلون فيه بحثاً فيما يستبعدون أو يقبلون هي كلها في ظنهم أنَّ المسألة ليست هكذا وإنما هي هكذا.
ما كان فيه إله، وكيف يكون فيه إله؟ أو كيف يشتق هذا من هذا؟ والعرب ما اشتقت هذا من هذا، وإنما الوضع الأول هو كذا.
الوضع الأول في الأسد هو كذا، الوضع الأول في الجناح هو في الطائر، من الذي يقول هذا؟ كل هذا من الذي يقوله؟
يقولون الجناح للطائر من الذي قال أنَّ الجناح للطائر؛ من؟ هل ثَم برهان؟
لذلك يأتون عند قوله تعالى {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ} [الإسراء:٢٤] يقولون هنا استعارة؛ لأنَّ الجناح للطائر واستعير للإنسان، استعارة يعني مجاز.
طَيِّبْ من الذي قال إنَّ العرب وضعت الجناح للطائر،؟
لا يوجد.
* فإذاً تنتبه لأنَّ من أوغل في المباحث اللغوية دون معرفة لأصولها والتحقيق فيها قد تدخل عليه إشكالات في العقيدة.
لهذا اعتنى المعتزلة بالمباحث اللغوية لصدّ كثير من الناس عن الحق في مسائل الاعتقاد، ظنّاً منهم أنهم حققوا المسائل العقدية.
فانتبه إلى هذه القاعدة: وهي أنّه لا يُتَصَوَّرْ في القواعد التي وُضعت في هذه الأمة -القواعد العلمية- في النحو أو في الأصول أو في أي فن من الفنون أو في المصطلح أنها وضعت هكذا باجتماع واتفق العلماء على هذا، لا، هي التماس.
ولهذا المجتهد إذا بلغ في الاجتهاد مبلغاً عظيماً وصارت عنده آلات الاجتهاد له أن يخالف.
ابن جرير الذي ذكرتَ أنتَ المثال عنه، ابن جرير لا يمثل مدرسة البصريين في النحو، ولا يمثل مدرسة الكوفيين في النحو، وإنما له مدرسة مستقلة في تفسيره؛ تارَةً يذهب إلى هؤلاء وتارة يذهب إلى هؤلاء، عندما يملي عليه الراجح وما يسمعه وما يحفظه من كلام العرب.
كذلك في القراءات ليس عنده شيء اسمه قراءات سبع ولا قراءات عشر، وإنما عنده قراءات أنصاف –اذا كنت اطلعت على التفسير-.
لماذا يصنع هذا؟
لأنَّه لا يتقيد بمصطلحات أهل العلم وبمواضعات أهل العلم.
نحن إذا تقدمنا في العلم ترى أنَّكَ تمرُّ على العلم، وترى أنَّ العلم يسبح في قرون، يسبح في القرون هكذا بين مد وجزر، في التواليف، وفي صنيع أهل العلم.
لكن هل هذا هو العلم أو هو وَضْعْ لقواعد العلم؟
هو وَضْعْ لقواعد العلم؛ لأنَّ العلم موجود قبل ذلك، العلوم موجودة قبل ذلك؛ العلوم اللغوية والشرعية والحديث كلها موجودة قبل ذلك، وإنما وَضَعُوا القواعد.
ووَضْعُ القواعد هذا هل هو إجماع أو اجتهاد؟