@ الأمر الثاني: لأجل الربط ما بين الآية وبين مسألة الميثاق أنَّهُ قال {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} والإشهاد معناه الشهادة وهذا يقتضي أن يكون الاستخراج على ما جاء في الأحاديث وأنَّ الله خاطبهم وأنهم ردوا عليه إلى آخره.
@ الأمر الثالث: هو أنَّهُمْ أجابوه بالقول {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} وهذا صريح في القول دون غيره.
* والجواب: أنَّ هذه الأمور اشتبهت على من استدل بالآية على مسألة الميثاق، والآية ليست دليلاً على مسألة الميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته، وأَنَّ تفسير الآية اخْتُلِفَ فيه على قولين:
١ - القول الأول:
هو الذي ذكرنا من أنَّ الله استَخْرَجَ من ظهر آدم ذريته إلى آخره، وجعلوا السنة تفسيراً لما جاء في الآية والآية دليلاً، فلم يُفَرِّقُوا بين هذا وهذا.
٢ - والقول الثاني:
وهو قول جماعات كثيرة من أهل العلم من جميع المذاهب والفِرَقْ والمحققين من أهل العلم أيضاً فقالوا إنَّ الآية تفسيرها هو: أنَّ الله أخذ من بني آدم من ظهورهم يعني:
{أَخَذَ} يعني خَلَقَ وجَعَلَ، فجعلهم يتناسلون، و (أخذ بعضهم من بعض) يعني أنشأ بعضهم من بعض كما قال سبحانه {كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} [الأنعام:١٣٣] .
(أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) يعني بما خَلَقَ من السبب من إراقة الماء في الأرحام إلى الحمل إلى الولادة.
فقوله {إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ} لمَّا ذَكَرَ الربوبية هنا في الأخذ دلَّ على أنَّ معنى الأخذ هنا الخلق.
قال {أَخَذَ رَبُّكَ} يعني خَلَقَ ربك.
(من ظهور بني آدم ذريتهم) هذا سبك الآية {مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ} .
فتكون {مِنْ ظُهُورِهِمْ} بدل بعض من كل من بني آدم.
{مِنْ ظُهُورِهِمْ} لأنَّ أصلاب الرجال فيها الماء فقال {مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} .
يعني خلق الذرية من الماء الذي في ظهور الآباء.
(أخذهم) يعني أخَذَ بعضهم من بعض وهذا يُطْلَقْ من هذا وهذا يوجد بسبب هذا.
{وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} (أَشْهَدَهُمْ) هنا الإشهاد في القرآن له معنيان:
- إشهاد بلسان المقال بأن يَشْهَدَ بقوله (اشهد أنه كذا وكذا قولاً) .
- والثاني إشهاد بلسان الحال، يعني أنَّ حالته تشهد.
والإشهاد هذا بلسان الحال بمعنى ما جاء في قوله تعالى {مَا كَانَ للمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهْ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِم بِالكُفْرِ} [التوبة:١٧] فشهودهم على أنفسهم بالكفر هو بلسان حالهم من تألِيهِهِم غير الله وعبادتهم لغير الله، أمَّا هم فلا يقولون عن أنفسهم إنهم كفار؛ بل يقولون نحن الحنفاء.
وكذلك في قوله ? {إِنَّ الإْنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} [العاديات:٦] يعني شاهد بلسان حاله بأفعاله أنه كنود جاحد لنعمة الله ?.
وهذا أيضاً في مثل قول الله تعالى {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسَكُمْ} [النساء:١٣٥]
هنا {شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسَكُمْ} يعني بلسان الحال أو بلسان المقال.
فدل إذاً على أنَّ الإشهاد في القرآن له هذان المعنيان.
ولهذا لمَّا كان الإشهاد على هذين المعنيين صار تفسير الآية {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ محتمل أن يكون بلسان المقال أو بلسان الحال.
ولمَّا كان أول الآية فيه الأخذ بالخلق صار الإشهاد على الربوبية بلسان الحال لا بلسان المقال.
{أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} يعني بحالهم وما جَعَلَ الله ? فيهم، في كل الأنفس من دلائل ربوبيته ووحدانيته التي تؤدي وتدل على أنَّهُ سبحانه هو المستحق للعبادة وحده دونما سواه.
{وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} بما جعل في أنفسهم من العبرة والدلالة على أَنَّ الذي خلقهم وفَطَرَهُمْ وأوجدهم وأبْدَعَهُم وبَرَأَهُمْ هو الله ? كما قال سبحانه {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ} [الطور:٣٥] ، وكما قال {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} [الذاريات:٢١] .
فإذاً تكون هنا الشهادة {أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} يعني جَعَلَ حالهم وما هم مُرَكَبُونَ عليه دال على الوحدانية وأيضا جعل بعضهم دليلاً على بعض.
{أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} يعني جَعَلَ هذه الذّرية بعضها شاهداً على بعض بما أودع الله ? في الناس من دلائل وحدانيته وآثار ربوبيته ومعالم صنعته وبرءه ?.
لهذا قاله سبحانه هنا {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} فذَكَرَ الربوبية التي هي الخلق وما يترتّب عليه.
{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} يعني أنهم جميعاً جميع هذه الذرية إذا رجعوا لدلائل الوحدانية التي يشهدونها بلسان الحال فإنهم مقرون بالربوبية.
وهذا هو الذي ذَكَرَهُ الله ? عن جميع الفئات والمشركين في أنّهم مقرون بالربوبية منكرون للإلهية.