جاء الشرع فَأَمَرَ الناس بالإيمان، فهذا الإيمان فيه كما ذكرنا لك أنَّ الحقيقة العرفية تخصيص للحقيقة اللغوية، والحقيقة الشرعية أسباب زائدة، فيها زيادة عن الحقيقة العرفية، قد تكون تخصيصاً لها وقد تكون رجوع إلى أصل المعنى اللغوي وتكون أوسع منها.
فالإيمان في الشرع جاء بأنه مُتَّجِهْ إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله إلى آخر أركان الإيمان الستة، وهذا الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر عَرَفْنَا منه أنَّهُ لا يكون إلا بِعَمَلْ ولا يكون إلا بإقرار ولا يكون إلا بتصديق، قال - عز وجل - {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:٢٨٥] ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء:١٣٦] ، {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّين وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى} [البقرة:١٧٧] الآية {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:٢] .
فإذاً وَصَفَ الله - عز وجل - المطلوب من المؤمن بأنَّ المؤمن مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وأيضاً أنه يعمل، وأيضاً أنه يقول بلسانه.
ولهذا جعل الله - عز وجل - الصلاة للدلالة على هذا الأصل، جعل الصلاة هي الإيمان فقال سبحانه {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:١٤٣] ، -نحن الآن نبحث هذا من جهة لغوية، من الجهة التأصيلية للكلمة لا من جهة التعريف- {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} هذا استعمال لكلمة الإيمان ويراد بها الصلاة.
الصلاة هي الإيمان معنى هذا أنَّ هذا تخصيص لكونه تصديق، فهو ليس تصديقاً فقط، بل الإيمان صار صلاةً.
إذاً هذا من جهة الاستعمال اللغوي زاد على العُرْفْ ورَجَعَ إلى سَعَةِ اللغة، وهو تخصيص في الواقع للتصديق ببعض ما يشمله التصديق الذي يتبعه عمل.
إذا تبين هذا فيظهر لك أنَّ الإيمان في الشرع نُقِلَ عن الإيمان في العُرف، كما أنَّ الإيمان في العرف نُقِلَ عن الإيمان في اللغة.
فتأصيل الإيمان على أنه في اللغة هو إقرارٌ وتصديقْ ليس صحيحاً؛ لأنَّ الإيمان في اللغة أعم من ذلك، مثل ما ذكرنا لك، الإيمان ما يَجْلُبُ الأمن من عمل، من إقرار، من تصديق، من تصرف، من موالاة، كل ما يجلب الأمن فهو إيمان.
- في اللغة قُيِّد ذلك على نحو ما ذكرت لك من الآيات.
- في الشرع جاء تسمية الإقرار إيماناً، وجاء تسمية الاعتقاد إيماناً، وجاء تسمية العمل إيماناً.
فإذاً من حيث الدلالة اللغوية والدلالة العرفية والدلالة الشرعية تبيَّنَ لك أنَّ هناك اختلاف في معنى الإيمان.
المرجئة مع أهل السنة في هذه المسألة اختلفوا، وهذا الاختلاف طويل الذيول كما هو معلوم؛ لكنهم اتفقوا من حيث الأصول -أصول الفقه- على أنَّ الكلمة إذا اعتراها هذه الأمور الثلاثة: الحقيقة اللغوية والشرعية والعرفية اتفق الجميع -الحنفية مع الشافعية والمالكية والحنابلة وغيرهم- اتفقوا على أن تُقَدَّمَ الشرعية، لماذا؟
لأنَّ الألفاظ الشرعية تخصيص، فلا يقول الحنفية -الذين قالوا في الإيمان بهذا التعريف- لا يقولون إنَّ السجود إذا أُمِرَ به فإنه يصلح بالركوع.
يعني مثلا لو قرأ القارئ القرآن وهو يمشي، ثم مَرَّتْ آية سجدة، فهل يركع ويُكْتَفَى بها؟ أم أنه يصير إلى السجود؟
السنة في السجود الشرعي، ولماذا؟
لأنَّ السجود جاء بهذا اللفظ الشرعي وبَيَّنَتْهُ السنة فإذاً يكون هو المراد لا السجود العرفي.
المسألة لها نظائر في الفقه في العقيدة في اللغة بعامة.
فإذاً نقول: اجتمعوا على أنَّ الحقيقة الشرعية مُقَدَّمَة، ثم هل تقدم اللغوية أو العُرْفِيَة؟
خلاف بينهم.
لهذا نقول: ما دام أنَّ الجميع اتفقوا على تقديم الحقيقة الشرعية، فما هي أدلة الحقيقة الشرعية في الإيمان؟ الأدلة على ذلك يطول الكلام عليها، ونرجئها مع تفصيلها في الكلام والمذاهب للدرس القادم، لكن نكمل المُقَدِّمَات.
أنا أريدك تفهم مسألة الإيمان لأنها مسألة مُشْكِلَة، وكثير ممن خاض فيها في هذا العصر ما أدرك حقيقة الفرق ما بين قول أهل السنة وقول المرجئة في هذا الباب.