والقول الأول أنه كفر أكبر، كما ينحو إليه قلة من أهل العلم، والقول الثاني أنه كفر أصغر مع أنَّ النص نص وعيد لكن دخل العلماء في تفسيره لأجل ورود الأدلة الأخرى، كما جاء في مسند الإمام أحمد بإسنادٍ صحيح ثابت أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من أتى كاهنا أو عرّافاً فسأله عن شيء فصدقه لم تُقبل له صلاة أربعين ليلة» ، وهذا من رواية الإمام أحمد وهي زيادة مقبولة قوية زائدة على ما في صحيح مسلم «من أتى كاهنا أو عرّافاً فسأله عن شيء فصدقه لم تُقبل له صلاة» ، بدون زيادة «فَصَدَّقَهُ» ، فقد جاءت بإسنادٍ ثابتٍ صحيح بل هي أرجح في الزيادة من رواية مسلم ولذلك اعتمدها إمام الدعوة رحمه الله في كتاب التوحيد.
المقصود أنه قال «فصدَّقَهُ لم تُقبل له صلاة» ، فكونه صلى الله عليه وسلم حدَّ عدم قبول الصلاة بأربعين ليلة دلَّ على بقاء الإسلام، لأنَّ الكافر إذا كَفَرَ من بعد إيمانه فإنه لا تُقبَلُ له صلاة مطلقاً، أما عدم قبول الصلاة أربعين ليلة، فهذا يدل على أنَّهُ مُسلم لكن عدم القَبُولْ لأجل عِظَمِ ما فعل، ثُمَّ لأجل الشبهة في حقه، الشبهة في حق من يسأل الكاهن، فإنه قد يقول: أنا لا أقول أنَّهُ يعلم الغيب ولا أعتقد أنه يعلم الغيب ولكن قد يُخبر بالشيء الذي تُخبرُهُ به الشياطين أو من يسترق السمع فتوجد شبهة تمنع من مأخذ التكفير.
أما الساحر فيختلف عن الكاهن، الساحر هذا شيء آخر لأنَّهُ لا يسحر إلا بالاستعاذة والاستغاثة بشياطين الجن.
س٥/ هل دعاء: اللهم انصر جميع المستضعفين من المسلمين، أو دعاء ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا من باب التعدي في الدعاء بحيث إنَّ الأول قد كتبه الله في الأرض والثاني قال الله سبحانه كما في الحديث قد فعلت؟
والسؤال الثاني: هل اعتقاد القبوريين والصوفية في الأولياء وأنهم يملكون الشفاعة ونحوها ناشئ من الغلو في الدعاء أم ما هو سبب هذا الاعتقاد لديهم؟
ج / مسألة الاعتداء في الدعاء بحثنا فيها باختصار في الدرس الماضي، وهي مسألةٌ مهمة جداً ينبغي لطلاّب العلم أن يعتنوا بها لأنَّ الداعي إذا اعتدى في الدعاء فإنه يأثم، والاعتداء في الدعاء سبب لردِّهْ؛ بل من أعظم أسباب ردّ الدعاء أن يدعو العبد ربّه الجليل العظيم ويعتدي ولا يتأدَّبْ وهو يدعو.
وبعض البشر وهُمْ مَنْ هُمْ في ضعف شأنهم وقلة حيلتهم؛ لكنهم إذا رأوا من يسألهم ويعتدي في السؤال فإنهم لا يصبرون وربما عاقبوا وربما نَفَرُوا؛ لأنَّ من حُسْنِ أو من أسباب الإجابة حُسْنِ السؤال حتى في حق المخلوق، والله ? هو المستحق لكل أدب من عبده وتَذَلُّلٍ من عبده وحُسْنِ السؤال وحُسْنِ الدعاء؛ ولهذا مبحث الاعتداء في الدعاء مما ينبغي على كل طالب علم أن يعتني به وخاصَّةً خطباء المساجد والأئمة الذين يدعون لأنفسهم وللمسلمين في القنوت وفي غيره.
لهذا جاء مثل هذا السؤال لأجل الاهتمام بهذا الموضوع.
قول القائل اللهم أنصر جميع المسلمين من المستضعفين هل هذا فيه اعتداء في الدعاء أم لا؟
هذا فيه حسن رجاء وظن بالله ?، وليس فيه اعتداء، والنبي صلى الله عليه وسلم دعا بنجاة المستضعفين فقال: «اللهم أنْجِ المستضعفين، اللهم أنْجِ فلانا وفلانا» ، والدعاء بنجاة جميع المستضعفين من المسلمين أو بنصر المسلمين جميعاً، هذا طَلَبْ والطلب قد يُجابْ بنحوه؛ يعني قد يُجابْ بنفس المطلوب وقد يُجَابُ بصورةٍ أخرى كما أوضحنا في الدرس الماضي، «ما من عبد يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال، إما أن يُعجل له دعوته، وإما أن يختبئها له يوم القيامة، وإما أن يصرف عنه من الشر مثلها» وهذا يدل على أنَّ العبد إذا أعْظَمَ في الطلب فإنه هذا مع عِظَمِ الرجاء.
الاعتداء في الدعاء لا يدخل في هذه اللفظة؛ لأنه لم يسأل سؤالاً فيه إثم، ولم يسأل سؤالاً ويدعو بدعاء فيه قطيعة رحم، ولا بشيءٍ مضادٍ لأمر الله ? في القرآن والسنة ولم يدعُ بدعاءٍ فيه مناقضة لحكمة الله ?.
مثال ما يناقض الحكمة- مثلاً يقول القائل: اللهم دمر اليهود والنصارى أجمعين، اللهم اجعلهم كذا واجعل ... إلخ، وتدميرهم بأجمعهم هذا ينافي الحكمة التي أخبرنا الله ? بها أنه يؤخر هؤلاء حتى ينزل المسيح عليه السلام، فيُسْلِمْ النصارى ويُقتَلْ اليهود.
فمثل هذا الدعاء العام هذا فيه مناقضة بما أُخبرنا منا الحكمة، وفيه -مثل ما ذكرت- اعتداء في الدعاء.
ولهذا كان من دعاء عمر رضي الله عنه وهو الخليفة الراشد والفقيه الأعلم، في دعائه أنَّهُ لم يكن يدعُ على جميع الكفار بأصنافهم من اليهود والنصارى وغيرهم، وإنما كان يدعو دُعَاءً مقيد –في القنوت- فيقول رضي الله عنه (اللهم عليك بكفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن دينك ويقاتلون أولياءك) .