أسال الله - عز وجل - أن يرفع درجة شيخنا في عليين وأن يجزيه عنا خير الجزاء وأن يجعله مع الأئمة السابقين ممن أحبهم واقتفى أثرهم إنه سبحانه على كل شيء قدير.
س٤/ ما رأيكم ما جاء في كتاب عبد الله بن الإمام أحمد من اتهام لأبي حنيفة وبالقول عليه بخلق القرآن إلى آخره؟
ج/ هذا سؤال جيد، هذا موجود في كتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد، وعبد الله بن الإمام أحمد في وقته كانت الفتنة في خلق القرآن كبيرة، وكانوا يستدلون فيها بأشياء تُنْسَبْ لأبي حنيفة وهو منها براء في خلق القرآن، وكانت تنسب إليه أشياء ينقلها المعتزلة من تأويل الصفات إلى آخره مما هو منها براء، وبعضها انتشر في الناس ونُقِلْ لبعض العلماء فَحَكَمُوا بظاهر القول، وهذا قبل أن يكون لأبي حنيفة مدرسة ومذهب؛ لأنَّهُ كان العهد قريباً -عهد أبي حنيفة- وكانت الأقوال تُنْقَلْ: قول سفيان قول وكيع قول سفيان الثوري قول سفيان بن عيينة قول فلان وفلان من أهل العلم في الإمام أبي حنيفة.
فكانت الحاجة في ذلك الوقت باجتهادِ عبد الله بن الإمام أحمد قائمة في أن ينقل أقوال العلماء فيما نَقَلْ.
ولكن بعد ذلك الزمان كما ذكر الطحاوي أَجْمَعَ أهل العلم على أن لا ينقلوا ذلك، وعلى أن لا يذكروا الإمام أبا حنيفة إلا بالخير والجميل، وهذا فيما بعد زمن الخطيب البغدادي، يعني في عهد بعض أصحاب الإمام أحمد ربما تكلموا وفي عهد الخطيب البغدادي نقل نقولات في تاريخه معروفة، وحصل ردود عليه بعد ذلك، حتى وصلنا إلى استقراء منهج السلف في القرن السادس والسابع هجري وكَتَبْ في ذلك ابن تيمية الرسالة المشهورة (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) ، وفي كتبه جميعاً يذكر الإمام أبا حنيفة بالخير وبالجميل ويترحم عليه وينسبه إلى شيءٍ واحد وهو القول بالإرجاء، إرجاء الفقهاء دون سلسلة الأقوال التي نُسِبَتْ إليه لأنَّهُ يوجد كتاب أبي حنيفة الفقه الأكبر وتوجد رسائل له تدل على أنَّهُ كان في الجملة يتابع السلف الصالح إلا في هذه المسألة، في مسألة دخول الأعمال في مُسَمَّى الإيمان.
وهكذا درج العلماء على ذلك كما قال الإمام الطحاوي إلا -كما ذكرت لك- بعض من زاد، غلا في الجانبين:
إما غلا من أهل النظر في الوقيعة في أهل الحديث وسَمَّاهُمْ حَشْوِيَّةْ وسَمَّاهُم جهلة.
ومن غلا أيضاً من المنتسبين للحديث والأثر فوقع في أبي حنيفة رحمه الله أو وقع في الحنفية كمدرسة فقهية أو في العلماء.
والمنهج الوسط هو الذي ذكره الطحاوي وهو الذي عليه أئمة السلف.
لمَّا جاء الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب أصَّلَ هذا المنهج في الناس وأنْ لا يُذْكَرَ أحد من أهل العلم إلا بالجميل وأن يُنْظَرْ في أقوالهم وما رَجَّحَهُ الدليل فَيُؤْخَذُ بِهِ وأن لا يُتَابَعْ عالم فيما أخطأ فيه وفيما زل؛ بل نقول هذا كلام العالم وهذا اجتهاده والقول الثاني هو الراجح.
ولهذا ظهر بكثرة في مدرسة الدعوة القول الراجح والمرجوح ورُبِّيَ عليه أهل العلم في هذه المسائل تحقيقاً لهذا الأصل.
حتى أتينا إلى أول عهد الملك عبد العزيز رحمه الله لمَّا دَخَلْ مكة، وأراد العلماء طباعة كتابة السنة لعبد الله بن الإمام أحمد وكان المشرف على ذلك والمراجع له الشيخ العلامة الجليل عبد الله بن حسن آل الشيخ رحمه الله رئيس القضاة إذ ذاك في مكة، فَنَزَعَ هذا الفصل بكامله من الطباعة، فلم يُطْبَعْ لِأَنَّهُ من جهة الحكمة الشرعية كانَ لَهُ وقته وانتهى، ثُمَّ هو اجتهاد والسياسة الشرعية ورعاية مصالح الناس أن يُنْزَعْ وأن لا يُبْقَى وليس هذا فيه خيانة للأمانة؛ بل الأمانة أن لا نجعل الناس يَصُدُّونَ عن ما ذكره عبد الله بن الإمام في كتابه من السنة والعقيدة الصحيحة لأجل نُقُولٍ نُقِلَتْ في ذلك.
وطُبِعَ الكتاب بدون هذا الفصل وانْتَشَرَ في الناس وفي العلماء على أَنَّ هذا كتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد.
حتى طُبِعَت مُؤَخَّرَاً في رسالةٍ علمية أو في بحثٍ علمي وأُدْخِلَ هذا الفصل -وهو موجود في المخطوطات معروف- أُدْخِلْ هذا الفصل من جديد، يعني أُرْجِعْ إليه، وقالوا إنَّ الأمانة تقتضي إثباته إلى آخره.
وهذا لاشك أَنَّهُ ليس بصحيح، بل صنيع علماء الدعوة فيما سبق من السياسة الشرعية ومن معرفة مقاصد العلماء في تآليفهم واختلاف الزمان والمكان والحال وما استقرت عليه العقيدة وكلام أهل العلم في ذلك.
ولما طُبِعْ كُنَّا في دعوة عند فضيلة الشيخ الجليل الشيخ صالح الفوزان في بيته، وكان داعياً لسماحة الشيخ عبد العزيز رحمه الله، فطَرَحْتْ عليه أول ما طُبِعْ كتاب السُّنَّة الطبعة الأخيرة التي في مجلدين إدخال هذا الباب فيما ذُكر في أبي حنيفة في الكتاب وأًنَّ الطبعة الأولى كانت خالية من هذا لصنيع المشايخ.
فقال رحمه الله في مجلس الشيخ صالح قال لي: الذي صنعه المشايخ هو المُتَعَيِّنْ ومن السياسة الشرعية أن يُحْذَفْ وإيراده ليس مناسباً. وهذا هو الذي عليه منهج العلماء.