فإذاً طلب الهداية إلى الصراط المستقيم في الحقيقة لمن أَحْسَنَ هذا الطلب وطلبه بحق وتضرّع إلى الله - عز وجل - به، رغبةً في تحقيق هذا المراد الأعظم هو عدم رضاً عن النفس؛ لأنَّ النفس لابد أن يكون فيها نقص عن تمام الهداية للصراط المستقيم، فلا دعاء الإنسان أحوج إليه من هذا الدعاء، {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} ، ولهذا كان من لطف الله - عز وجل - بعباده أن جَعَلَ هذا الدعاء هو أوَّل دعاء في القرآن وأوَّل سؤال في القرآن، وهو أوَّل سؤال واجبٍ أيضاً في الصلاة، يعني أوَّل سؤال في الصلاة واجب -دعاء الاستفتاح ليس بواجب-، هو الهداية للصراط، وهذا من أعظم الأدعية لأنَّ القلب يتقلب، والإيمان يتغيّر، والإسلام يتغير في العبد وهذا كله بحكم ضعف العلم وزيادته وضعف التطبيق وزيادته.
لهذا أحسَنَ العَلَّامة أبو جعفر الطحاوي رحمه الله حين دعا بهذا الدعاء في خاتمة هذه الرسالة والعقيدة الطيبة، فقال (نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَى الْإِيمَانِ، وَيَخْتِمَ لَنَا بِهِ، وَيَعْصِمَنَا مِنَ الْأَهْوَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ) ، وهذا يُبَيِّنْ مقام هذا السؤال عند هؤلاء العلماء الربّانيين لأنهم يسألون الله الثبات على الإيمان الذي شَرَحَ في هذه العقيدة أركانها، وبَيَّنَهَا ومع ذلك هو أشد ما يكون حاجة إلى الثبات على الإيمان وإلى الخَتْمِ له في حياته به لشدة معرفته بأنَّ هذا الإيمان يُسْلَبْ سواءٌ أكان سَلْبَاً كاملاً أم سلب بعض كماله أو بعض التفاصيل فيه أو بعض أجزائه.
فدعا بهذا الدعاء المتضمن الثبات على الإيمان، والذي تَضَمَّنَ أيضاً العصمة من الأهواء المختلفة والآراء المتفرقة.
وهل مثل هذا العالم الذي عَلِمَ أحوال هذه الفرق الضالة من المُشَبِّهَة والمعتزلة والجهمية والجبرية والقدرية ومن نحا نحوهم والمرجئة والخوارج والرافضة وأشباه هؤلاء، هل من عَلِمَ هذا العلم الواسع يخشى على نفسه؟
نعم، من عَلِمْ خَشِيَ وهذا هو الواقع لأنَّ الشيطان حريص ولأن الإنسان ضعيف جداًّ.
فلما كان الأمر كذلك كان واجباً على العبد وجوب وسائل أن يحرص على أمرين:
١- الأمر الأول: العلم النافع بالعقيدة الصحيحة والتوحيد بدلائله من الكتاب والسنة، وأن يكون ذلك ظاهراً في قلبه لا شُبْهَةَ عنده فيه مُسْتَحْضِرَاً له، مُرَاجِعَاً له في كل حال، حتى يسلم قلبه من أن يكون فيه فجوة يدخل منها شيطان.
٢- الأمر الثاني: لا بُدَّ من إستغاثته بالله وسؤاله لمولاه أن لا يُزيغَ قلبه بعد إذ هداه.
هذه مسألة عظيمة، وسؤال جليل، وإنما يَعْرِفُ شدة الخطر من علم حَقَّ الله - عز وجل - وما له من الأسماء والصفات وعلم أثر هذه الأسماء والصفات في ملكوت الله - عز وجل -، فكم تَقَلَّبْ قلب أحد وكم ضَلَّ فلان وخُذِلْ فلان، وكم ضل من إنسان وكم زاغ من قلب إلخ ...
فنسأل الله - عز وجل - بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يُثَبِّتَنَا على الإيمان وأن يختم لنا ولوالدين ولأحبابنا به، وأن يعصمنا من الأهواء المختلفة والآراء المتَفَرِّقَة والمذاهب الرَّدِيَّة إنه سبحانه جواد كريم.
والأهواء المختلفة هذه منها ما هو كفري ومنها ما هو دون ذلك.
وإمام الحنفاء ابراهيم عليه السلام دعا بتلك الدعوات الصالحة التي قال فيها {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كًثِراً مِنَ النَّاسْ} [إبراهيم: ٣٥-٣٦] ، فَجَعَلَ الأصنام المُضلة لكثيرٍ من الناس لما يقع في القلوب منها أو من أوليائها من الشبهة، فسأل ربه أن يُجَنِّبَهُ وأن يُجَنِّبَ بنيه عبادة الأصنام.
وهذا يدلّ على عظم خوف الخليل إبراهيم عليه السلام من هذا الزَّيْغْ وهو الكامل وهو الخليل وهو المجْتَبَى عند ربه - عز وجل -.
ولذلك تحفظون كلمة إبراهيم التيمي، من التابعين رحمه الله عند تفسير هذه الآية كما رواه ابن جرير وغيره، حين تلا هذه الآية قال (ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم) (١) .
وهذا يدل على أنَّ الناصح حقاًّ لنفسه وللأُمَّةْ ولأئمة المسلمين وعامّتهم حقاً، من نصح حقاًّ، فإنه يوصيهم بالاهتمام بتوحيد الله - عز وجل - الذي هو حقّ الله على العبيد وبتصفية القلب من أدران العقائد الفاسدة؛ لأنَّهُ بصلاح القلب وبسلامة عقيدته يُبارِكُ الله - جل جلاله - في قليل العمل، فإنَّ في العمل القليل يُبَارَكْ ويزيد ويضاعفه الله - عز وجل - إذا سلِمَ القلب وسلمت العقيدة فإنَّ الله يبارك، أما إذا كان العمل كثيرا والعقيدة فاسدة فإن هذا ليس بشيء.
(١) تفسير الطبري (٧/٤٦٠)