أيضا هو صلى الله عليه وسلم تحدّى الناس في قوله فيما أتى به، وأخذ يدعو كما يظهر لك من قصة هرقل مع أبي سفيان وسؤالات هرقل لأبي سفيان، وأخذ يدعو غير ملتفت لخلاف من خالف، والناس يزيدون وأعداؤه ينقصون، وهذا مع تطاول الزمن ونصره الله - عز وجل - له، فإنَّ هذا دليل على صدقه فيما أخبر وفي أمره ونهيه وقوله وفعله صلى الله عليه وسلم.
@ أما الثالث -كما ذكرنا- هذه جنس أجناس الأدلة أنَّ الله - عز وجل - هو صاحب الملكوت وهو ذو الملك والجبروت، وهو الذي يَنْفُذُ أمره في بريته، فمحال أن يأتي أحد ويَدَّعِي أنه مرسل من عند الله، ويصف الله - عز وجل - بما يصفه به، ويذكر الخبر عن الله وأسمائه ونعوته، ثم هو في مُلْكِ الله - عز وجل - يستمر به الأمر إلى أن يُشَرِّع ويأمر وينهى وينتشر أمره ويغلب من عاداه ويسود في الناس ويُرفع ذكره دون أن يعاقب، ولهذا قال - عز وجل - في بيان هذا البرهان {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:٤٤-٤٧] ، لو كانت الدَّعْوَةُ في ملك الله - عز وجل - وهذا يَدَّعِي أنه مُرْسَلٌ ونبي ويأتي بأشياء يقول هي من عند الله، فإنّ مالك الملك لا يتركه وحاله بل ربما جعل ذلك ابتلاءً وامتحانا للناس، ولكن لا يُنْصَرْ وتكون شريعته هي الباقية ويكون ذكره هو الذي يبقى، ويكون خبره عن الله وعن أسمائه وصفاته ودينه وشرعه وعن الأمم السالفة وعما يحصل هو الذي يبقى في الناس، فإنَّ هذا مخالف لقول الله - عز وجل - (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ) والمشركون لما كذّبوا النبي صلى الله عليه وسلم قالوا {شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ}[الطور:٣٠] ، لأنّ السُّنَّةَ ماضية عند العقلاء أن الذي يَدَّعِي عن الله - عز وجل - فإنما يُتَرَبَصُ به الهلاك والإفناء.
{شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} فجاء البرهان {قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنْ الْمُتَرَبِّصِينَ}[الطور:٣١] ، لأنّ هذا برهان صحيح، فتربصوا فإنِّي معكم من المتربصين {قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنْ الْمُتَرَبِّصِينَ} وقد صدقتم في هذا البرهان لأنه لو كان كما تقولون كاذب فإنه يُتَرَبَصُ به ريب المنون وأن يُهْلِكَهُ الله - عز وجل - وأن يجعله مخليا وأن يجعله عبرة لمن اعتبر.
فالنبي صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء والمرسلين جعلهم الله - عز وجل - حملةً لرسالته وشَرَّفَهُم ورَفَعَ ذِكْرَهُمْ ونَصَرَهُم بين الناس، ولهذا تجد أنَّ الرسالات هي الباقية في الناس، رسالة موسى عليه السلام ورسالة إبراهيم ورسالة عيسى عليه السلام ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وكل واحدة منها دخلها من التحريف ما دخلها، فأتباع إبراهيم حرَّفُوا في دينهم حتى أصبحوا على غير ملة إبراهيم، وأتباع موسى من اليهود الآن على غير دين موسى، وأتباع عيسى عليه السلام الآن على غير دين عيسى، وأتباع محمد صلى الله عليه وسلم هم الذين حفظهم الله - عز وجل - وجعل منهم طائفة ظاهرين بالحق يقومون به إلى قيام الساعة.