هذا الطلب الغريب، لا يتوقعون استجابته، وإنما كان طلبهم له من قبيل الاستطراد للمعجزات الخارقة، التي كانت تقع تحت حواسّهم، من إحياء الموتى، وخلق طير من الطين، وبعث الحياة فيه، وإبراء الأكمه والأبرص.. فماذا لو طلبوا هذا الطلب الغريب؟ هل يقبله الله؟ وهل يجيبهم إليه؟ إنهم لا يشكّون فى قدرة الله، ولكنهم يشكون فى أن يستجاب لهم فيما طلبوا.. ومن هنا أخذ هذا الطلب صورة الاستدعاء بالقدرة والاستطاعة.. لا بالإضافة إلى من طلب إليه، ولكن بالنسبة لمن طلب له..
كمن يقول لمن هو أعلى منه منزلة: هل تستطيع أن تعطينى هذا الكتاب الذي معك؟ إنه لا شك مستطيع، إذ لا شىء يمسكه عن ذلك.. ولكن الأمر متروك لتقديره هو.. وهل يرى هذا الشخص مستحقا لهذه المكرمة أو غير مستحق لها؟
وليس فى قول الحواريين:«هل يستطيع ربّك» إنكار لربوبية الله لهم، ولكنه استصغار لشأنهم، وإخفاء لذاتهم، وهم يطلبون هذا الطلب، الذي لا يصح أن يكون طالبه من الله إلا إنسانا له عنده من المنزلة مثل ما لعيسى عليه السلام، فهو ربّه الذي أفاض عليه هذه المكرمات، وهو ربّه الذي يطلب منه هذه المكرمة.. ولهذا أضافوا عيسى إلى الربّ، ولم يضيفوا هم أنفسهم إليه، استصغارا لمكانهم فى هذا المقام.
وفى قول عيسى عليه السلام للحواريين:«اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» تأديب لهم، ودعوة إلى ما هو أولى بالمؤمنين أن يكونوه مع الله، كما يقول السيد المسيح فى بعض تعاليمه:«لا تجرّب الربّ إلهك» .. فذلك هو الكمال كلّه، والإيمان كلّه.
ولكن- كما قلنا- للمؤمنين المقربين إلى الله، المشاهدين لعظمة جلاله، المحفوفين بخفىّ ألطافه- لهؤلاء المؤمنين أنس بروح الله، وانتشاء بنسائم قربه،