فهم وقد انتهى بهم المطاف إلى النار، يصلون سعيرها، ويذوقون عذابها- لن يتركوا هكذا وما هم فيه من بلاء، بل يسألون سؤال تأنيب، وتعذيب:
«أليس هذا بالحق؟» أي أليس هذا اليوم وما تلقون فيه، قد جاءكم بالحق الذي كنتم تكذبون به؟
وفى حسرة قاتلة، وفى أنفاس لاهثة مبهورة، وفى كلمات حزينة متقطعة دامية، تتحرك شفاههم بها فى إعياء وتثاقل- يجىء منهم هذا الصوت الخفيض فى أنين ذليل:«بلى وربنا» .. هذا هو جوابهم، وهذا هو ما استطاعوا أن يحركوا شفاههم به.. كلمتان من أخف الكلمات، وأقلها حروفا، ولو استطاعوا النطق لأكثروا من القول والاعتذار فى هذا المقام، ولو جدوها فرصة فى إظهار النّدم، والاستعطاف! ولكن أنّى لهم ذلك وهم فى هذا البلاء العظيم؟
«بلى وربنا» هكذا جوابهم.. نبرتان هامستان، يخطفانهما من كيانهم خطفا، ثم يعودون إلى أنفسهم فى لهفة، حتى لكأنهم يحاولون إطفاء النار المشتملة عليهم..!
ولكنهم ما يكادون ينصرفون إلى أنفسهم، يعالجون الهمّ الذي هم فيه، حتى يقرعهم صوت الحق:«فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ» ، وإذا النار تشتد سعيرا، وتعلوا لهيبا، لتذيقهم العذاب الذي آذنها به الله سبحانه وتعالى أن تذيقهم إياه!! وفى قوله تعالى:«وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ» هو مقابل لقوله تعالى: «وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ» فالمراد بالوقوف هنا الحبس المقيم، يقال وقف فلان نفسه على هذا الأمر، أي لزمه، ولم يتحوّل عنه- ومنه قول إمرئ القيس:
وقوفا بها صحبى علىّ مطيّهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجمل