أما هنا، إذ يدعو موسى ربه له ولأخيه ولقومه، فلا يقبل الله هذا الدعاء على إطلاقه، بل يقبله فى المؤمنين، الذين يستقيمون على طريق الإيمان والخير:«عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ» وفى تقديم العذاب إشارة إلى أن العذاب هو الجزاء المرصود لبنى إسرائيل، وأن الرحمة التي تنالهم، هى الرحمة العامة التي تسع الوجود كله، حتى أهل النار فى النار! والسؤال هنا: ما معنى «وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ» إذا كانت لا تنال العصاة والضالين والكافرين؟، أليس هؤلاء العصاة الضالون الكافرون من أشياء هذا الوجود؟. فكيف لا تسعهم رحمة الله التي وسعت كل شىء؟.
والجواب على هذا: أن كتابة الرحمة شيء، وسعتها للناس شىء آخر.
فالكتابة لمن كتبت لهم الرحمة تعنى- كما قلنا- تقريرها ووقوعها، وشمولها، فمن كتبت لهم الرحمة- جعلنا الله منهم- فهم السعداء، الذين تفتح لهم أبواب الجنة، ويلقّون فيها تحيّة وسلاما.. وأما سعة الرحمة فإن الوجود جميعه- علوه وسفله- والناس جميعا- برّهم وفاجرهم- داخلون فى رحمة الله، التي وسعت كل شىء.. وقد قلنا من قبل إن الوجود فى ذاته- على أسوأ وجه يراه الإنسان- هو فى ذاته نعمة، ورحمة، لأنه خير من العدم.. ثم إن العصاة- فى الدنيا- لم يحجب الله عنهم نعمه، ولم يحرمهم رزقه، ولم يصبهم فى جوارحهم التي يعيشون بها مثل سائر الناس.
وأصحاب النار وهم فى النار، هم ممن وسعتهم رحمة الله، إذ هناك عذاب فوق هذا العذاب، وبلاء أكبر من هذا البلاء، وقد وقف الله بهم عند هذا