وهنا شبهتان قد تندفعان فى صدور أولئك الذين يأخذون الأمور بما يلوح على ظاهرها، دون أن ينفذ نظرهم إلى ما وراء هذا الظاهر من حق وصدق..
والشبهة الأولى: هى ما يبدو على ظاهر الحياة اليوم من انكماش ظلّ الدين عموما فى النفوس، واستيلاء الإلحاد على مواقع الإيمان عند كثير من الشعوب والأفراد..
وهذا يعنى بظاهر واقعه، أن عصر الإيمان قد ولّى، وأن الناس فى طريقهم إلى إيمان آخر غير هذا الإيمان المستند إلى ما وراء المادة.. إيمان بالطبيعة وبالحياة فى صورها المادية المختلفة وما تولده منها العلوم والفنون.. وهذا يعنى أيضا أنه لا الإسلام ولا غير الإسلام من الأديان الأخرى، سيبقى على ما هو عليه الآن، فضلا عن أن يمتد ظله، ويقوى سلطانه! ونقول: إن هذه الظاهرة، هى مقدمة طبيعية لإقامة الإنسانية على دين صحيح، يتجاوب مع العقل ومنطقه، ويدخل إلى عقول الناس كما تدخل الحقائق العلمية.
فالعقل الحديث الذي بعد عن الدّين، إنما بعد عن تلك المعتقدات التي لا تثبت لأدنى نظر ينظر به إليها، ثم يفرض عليه- مع هذا- أن يقبلها، وأن يتعامل معها، لأنه لا بد له من دين يعيش به، ويحيا معه..
فإذا وقف العقل من تلك المعتقدات، هذا الموقف، وإذا أبى أن يخضع خضوعا أعمى لسلطانها- فذلك حق مشروع له، وإلّا فما كان لهذا العقل الذي ميّز الله الإنسان به عن عالم الحيوان، وظيفة يؤديها للإنسان، أو عمل يعمله فى هدايته، وكشف معالم الطريق له، وخاصة فى أهم شأن حيوى من شئونه، وهو ما يمسّ الحياة الروحية منه.
فليس إذن هذا الموقف المنحرف الذي يقفه العقل العصرى من الدين- ليس هذا الموقف عن آفة فى هذا العقل، أو عن استغناء منه عن الدين..