عجبا، تتكشف حالا بعد حال، كلما جاء إليها الناس بمزيد من العلم والمعرفة- فإننا لا نعرض القرآن الكريم على المخترعات العلمية، ولا الآيات الكونية، التي تنكشف للناس زمنا بعد زمن.. إذ ليس القرآن الكريم كتاب علم يشرح للناس قضايا العلوم.. من طب، وهندسة، وفلك، ورياضة وغيرها.. وإنما هو كتاب عقيدة وشريعة، يتجه أول ما يتجه إلى ضمير الإنسان، ليصحح صلته بخالقه، ثم يقيم لهذه الصلة من التشريع، ما يمسك بها سليمة قوية فى كيانه.. فإذا تمّ ذلك، صحح صلة الإنسان بالإنسانية، ووضع لذلك من التشريعات ما يقيم هذه الصلة بين الناس.. على أساس من الحق والعدل والإحسان..
تلك هى المهمة الأولى للقرآن الكريم، وقد انكشفت هذه الغاية من القرآن الكريم للمسلمين، فى الصدر الأول للإسلام، انكشافا تامّا، فأحذوا حظهم كاملا منها، على نحو لم يكن للخلف من بعدهم أن يبلغوا منه بعض ما بلغوا، على وجه لم تشهد الحياة مثيلا له فى سموّ الإنسان وعظمته، واستعلائه على كل ضعف بشرى..
مهمة القرآن الكريم الأولى إذن، هى أن يصنع هذا الإنسان المتكامل السوىّ فى مداركه، وعواطفه، ومشاعره.. أو بمعنى آخر هى أن يحفظ على الإنسان فطرته السليمة، وأن يغذيها بهذا الغذاء السماوىّ، الذي يقيمها على طريق الحق، والعدل، والإحسان. ثم يدع لهذا الإنسان وجوده هذا، يتعامل به مع الوجود كله، فينظر فيه بعينه، ويفكر فيه بعقله، ويقطف من ثماره ما تطول يده، ويبلغ عزمه، وصبره، وجهده..
هذا هو الإنسان الذي يتربّى فى حجر القرآن، ويغتذى من أنواره.. هو الإنسان الذي يتقدم ركب الإنسانية فى عصره الذي يعيش فيه.. فإذا تخلف عن مكان القيادة والصدارة، لم يكن هو الابن الذي ينتسب إلى القرآن، ويحسب على الإسلام.