وقد اطمأن الإنسان إلى هذا المعتقد، واجتمعت له فيه، نفسه المشتتة، وعاد إليه فكرة اللاهث، الذي كان يجرى وراء كل هذه الآلهة التي لا حصر لها..
ومنذ هذا الوقت استطاع الإنسان أن يتأمل، وأن يطيل التأمل فى هذين الإلهين، اللذين احتويا جميع الآلهة، وانتزعا كل سلطان على هذا الوجود..
ولقد نشأ عن هذا التأمل الطويل العميق فى هذين الإلهين، فلسفة لها أسلوبها الذهني والمنطقي، ولها أحكامها القائمة على البرهان والاستدلال..
ولعلّ أقدم نظر لبس ثوب الفلسفة فى العقيدة «المثنوية» هو نظر حكماء الفرس، الذين انتهى بهم الرأى إلى القول بإلهين يحكمان العالم، ويتحكمان فى مصيره، وهما: إله الخير، وإله الشر.. وقد رمزوا لإله الخير بالنور «يزدان» ولإله الشرّ بالظلام «أهرمن» .
وقد تفرقت بفلاسفة الفرس وحكمائها السبل حول النظر فى هذين الإلهين، وسلطان كل منهما فى هذا العالم، وفى الصدام والصراع الذي لا بد أن يقع بينهما، إذ كانت طبيعة كل منهما على خلاف حادّ مع طبيعة الآخر.
فذهب فريق منهم إلى أن «يزدان» - وهو النور- أزلىُّ قديم، وأما «أهرمن» - وهو الظلام- فحادث مخلوق..
وفى زمن متأخر جاء «زرادشت» بمذهب يخالف هذا المذهب، فقال: إن الله واحد قديم، لا شريك له ولا ضد ولا ندّ.. وهو الذي خلق النور والظلام، ولا يجوز أن ينسب إليه وجود الظلمة.. ولكن الخير والشرّ، والصلاح والفساد، والطهارة والخبث، إنما حدث بامتزاج النور والظلمة، ولو لم يمتزجا لما كان للعالم وجود!!