وإنما هذا الاختلاف فى ذاته، دليل على وجوده! ولعل أول إحساس بالخير، جاء عن طريق إحساس مادىّ، يقع على الجسد من أمور تتصل بحاجات الإنسان الجسدية، التي تمسك عليه الحياة، وتدفع عنه أسباب الفناء فالشىء الذي كان يسدّ حاجة الإنسان البدائى، ويشبع جوعته- أيا كان هذا الشيء- هو خير وخير كثير..
من أجل هذا كانت تلك الموجودات من حيوان أو نبات أو جماد، معبودات للإنسان الأول، حيث ظهرت له، فى صورة نافعة أو ضارة، وذلك ليرجو خيرها، ويدفع شرها..
ومن هنا كان تعدد الآلهة التي عبدها الإنسان فى خطواته الأولى فى الحياة.. فعبد كل شىء، إذ كان يرى مصيره مرتبطا به، فى مجال النفع والضر على السواء..
ثم حين خطا الإنسان خطوات إلى الحياة، وتعرف على وجوه الأشياء، وأخضعها لسلطانه- ترك عبادتها شيئا فشيئا، ثم ما زال بها يدفعها عن مقام التأليه والتقديس حتى انتهى به الأمر إلى جمعها جميعا تحت دائرتين: دائرة تسع كل ما هو خير، وأخرى تجمع كلّ ما هو شر..
فالخير جميعه يصدر عن قوة عليا، كما أن الشرّ كله يصدر عن جهة عليا كذلك، تناظر قوة الخير، وتقابلها..
وهكذا انتهى الإنسان فى مرحلة متأخرة من حياته إلى عبادة الخير، والشر، ولم يستسغ أن يجمع بين الخير والشر فى دائرة واحدة، فيجعلهما صادرين عن قوة واحدة عليا.. لأنه فهم أن الخير لا يلتقى أبدا مع الشر، وأن الذي يصنع الخير، لا يصنع الشر!