أي أنزلناه على هذا الأسلوب المنجم:«لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ» .. وذلك التثبيت، هو بهذا الاتصال الدائم بالسماء، وبتلقّى ما ينزل منها، حالا بعد حال، على مدى ثلاث وعشرين سنة، تنتظم مسيرة الدعوة، من مبدأ الرسالة إلى خاتمتها.. فعلى كلّ خطوة في هذه المسيرة، وعند كل موقف من مواقفها، كان الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- يتلقى أمداد السماء، ويفتح قلبه وسمعه، لنداء الحق جل وعلا، فيما يحمل إليه الملك من كلمات ربّه، فيجد الرّوح لروحه، والأنس لنفسه، والعزاء الجميل لكل ما يلقى من ضرّ وأذى.. «كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ» .. ولو نزل القرآن جملة واحدة، لما وجد الرسول هذا الذي كان يجده منه، من أنس دائم، ومدد ممتد، من تلك الثمرات الطيبة، التي ينال غذاءه الروحي منها، كلّما أحسّ جوعا، وهفت روحه إلى زاد من مائدة السماء!! إنه لو نزل القرآن جملة واحدة، لكان على النبيّ، أن يحمل هذا الزاد الكثير معه على كاهله، ثم كان عليه- كلما أحسّ جوعا- أن يتخير من هذا الزاد طعامه.. ثم كان عليه أن يعدّ هذا الطعام، وأن يهيئه.. ثم كان عليه أيضا أن يحدد القدر المناسب لحاجته. وهذه كلّها عمليات تستنفد جهدا كبيرا من النبيّ، وتذهب بكثير من طاقانه الروحية في البحث والإعداد. وهذا على خلاف نزول القرآن منجّما، حسب الحاجة، وعند الظروف الداعية.. حيث يجد النبيّ في تلك الحال وجوده كلّه مع آيات الله المنزلة عليه، فتشتمل عليه، وتنسكب في مشاعره ووجدانه، وتملأ عقله، وتلبس روحه.. وشتان بين طعام محفوظ في علب، وبين هذا الطعام المجننى من مغارسه لساعته! قوله تعالى:«وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا» إشارة إلى الصورة التي نزل عليها القرآن، وأنه جاء أرتالا متواكبة، ومواكب يتبع بعضها بعضا، حيث تستطيع العين