الحق الذي تلوح أماراته لأعينهم، ثم إنهم إذا بصّروا به، وأبصروه، لم يتقبلوه، واتهموا أنفسهم، وارتابوا فى معطيات أبصارهم، وقالوا كما ذكر القرآن:«إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ»(١٥: الحجر) .
فهذا الحمد الذي ينطق به الوجود كله، تسبيحا، وولاء لله، لا يدرك المشركون دلالته، لأنهم لا يعقلون ما ينبغى لله من تنزيه عن الشريك والولد.
إن الذي يغطّى على أبصار هؤلاء المشركين، ويعمّى عليهم الطريق إلى الحق، هو اشتغالهم بهذه الدنيا، وتنافسهم على متاعها، واستهلاك أنفسهم فى الجري اللاهث وراء لذاذاتها وشهواتها. ولو أنهم تخففوا قليلا من تعلقهم بالحياة، ونظروا إليها على أنها طريق إلى حياة أخرى، أخلد وأبقى- لو أنهم فعلوا هذا لكان شأنهم مع آيات الله وكلماته، غير شأنهم هذا، ولوجدوا لدعوة لرسول آذانا تسمع، وعقولا تعقل، وقلوبا تتقبل ما تعقله العقول..
ولهذا جاء قوله تعالى: فى هذه الآية، كاشفا عن حقيقة دنيا المشركين هذه، التي فتنوا بها، وسكروا من خمرها. فما هى فى حقيقتها إلا لهو ولعب، لا يشغل نفسه بها إلا لاعب لاه، شأنه فى هذا شأن الصغار، الذين يعيشون لساعتهم، فى مرح معربد، ولهو صاحب، غير ملتفتين إلى أي شىء وراء هذا.
وقوله تعالى:«وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ» - هو عرض للجانب الآخر من حياة الإنسان، وهو الجانب الحق، الجدير بأن يلتفت الإنسان