حسابا، هو الحق، والحق وحده.. سواء وافق هذا الحق واقع الناس، وجرى مع معارفهم ومعتقداتهم، أم جاء على طريق غير طريقهم، وبعلم غير علمهم! وهذا شاهد من شهود القرآن الكريم، بأنه ليس من عمل بشر، ولا من تدبير إنسان، وإلا كان عليه أن يتجنب هذا الصدام الصريح مع الواقع، الذي لا يعلم ما وراءه إلا علام الغيوب.. وإلا كان عليه أيضا- لو أنه من عمل بشر- أن يخفى ما بين يديه من حجج يستند إليها خصومه، ويتخذون منها سلاحا يحاربونه به، فى المعركة الدائرة بينه وبينهم.
وما كان لغير الحق السماوي أن يقف هذا الموقف، إزاء أمر يشتهيه أهله وهم به جاهلون، ويتمنّونه وهم منه وجلون.. خوفا من البهت والتكذيب.
لهذا، فإن القرآن الكريم، إذ يقول ما يقول فى عيسى وأمه مما تنكره اليهود، وتقول بخلافه فيهما، وإذ يقول ما يقول فى عيسى، وفى كلامه فى المهد مما ينكره النصارى، ولا يجدون عليه شاهدا مما فى أيديهم من أناجيل- إن القرآن، إذ يقول هذا، وذاك، إنما يقول الحق الذي غمّ على الناس أمره، وعميّت عليهم سبله، ثم لا عليه إذا هم صدقوه وآمنوا به، أو كذبوه وأعرضوا عنه.. فإن الحق الذي نزل به، سيظل هكذا قائما على الدهر، يتحدى المكابرين والمعاندين، ويواجه أبصار المتشككين والمنحرفين، «فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها»(٢٠٤ الأنعام) ..
«وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ»(٢٩: الكهف) والعاقبة دائما للحق، فإنه وإن غامت عليه سحب الضلال، وانعقدت فى سمائه ظلمات الجهل- فإنها أمور عارضة، لا تلبث أن تزول، وإن طال مقامها..