ويبدو فى ظاهر الأمر أن المجتمع الإنسانى الذي بسط له الرزق وكفلت فيه حاجة كل فرد- يبدوا أنه مجتمع سعيد، يعيش فى رفه ورغد، ويحيا فى سلام وأمن.. إذ ماذا يبتغى الإنسان أكثر من أن تسدّ مطالبه وتقضى حوائجه؟ ..
ولكن نظرة وراء هذا الظاهر، تكشف عن أن هذا المجتمع الإنسانى- إذا كان له وجود- تفسده سعة الرزق، وتحيل حياته إلى حرب دائمة وعدوان متصل.. إذ ليست كلّ حاجة الإنسان فى أن يأكل ويشرب، وأن يجد المأوى والملبس، وإنما حاجاته ومطالبه أوسع من هذه المطالب القريبة التي لا تعد شيئا إلى جانبها.. فهناك وراء مطالب الجسد، مطالب العواطف، والنزعات، وهناك جوع أشد ضراوة وأكثر إلحاحا من جوع البطون.. هو جوع الأثرة، والتعالي، وحبّ التملك والسلطان.. والإنسان فى سبيل إشباع هذا الجوع لا يشبع أبدا.. ومن هنا يكون بغى الإنسان على الإنسان، لا ليسدّ جوع بطنه، وإنما ليشبع جانبا من جوع أثرته، وتسلطه، وقهره، وتعاليه..
فهو لا يرضيه أبدا أن يكون فى مستوى الناس.. إنه يريد الامتياز عليهم، والتعالي فوقهم، وهو فى سبيل هذا يسلب غيره، بل يسفك دمه إن استطاع.
وهذا واقع الحياة والمشاهد فيها.. فالمجتمعات ذات الغنى والثراء، هى موطن الفتنة المتحركة، التي توقد نار الحروب، فيما بينهما، فإذا انفرد مجتمع منها بالغنى والسلطان تحول إلى عاصفة مدمرة تجتاح المجتمعات الفقيرة، وتمتصّ البقية الباقية من دمها، وتأخذ اللقمة من فمها.. هكذا الناس فى أفرادهم، وجماعاتهم وأممهم.. الأغنياء يتسلطون على الفقراء، والأقوياء يعتدون على الضعفاء..
لا لشىء إلا إشباعا لشهوة التسلط والعدوان.. وفى هذا يقول الشاعر العربي الجاهلى، الذي يضرب المثل بقبيلة «بِكْرٌ» حين أخصبت أرضها وكثر خيرها، فبغت وتسلطت.. يقول: