والجدل العنيف، فإن ذلك من شأنه أن يثير فى القوم دوافع الكبر والاستعلاء، وأن يشغلوا بالمؤمنين، وبالانتصار عليهم فى المقاولة والمصاولة- عن النظر فى أنفسهم والإفادة من آيات الله التي تتلى عليهم..
ومن أجل هذا جاء قوله تعالى:«قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ» - جاء داعيا المؤمنين إلى أن يتجاوزوا عن سفاهة هؤلاء المشركين، وألا يلقوا سفههم بسفه مثله، حتى تتاح الفرصة لهؤلاء المشركين أن يستمعوا إلى آيات الله، فى جوّ لا تنعقد فيه سحب الجدل والخصام، التي تحجب عنهم الرؤية الصحيحة لآيات الله.. وبهذا تقام الحجة عليهم، بعد هذا البلاغ المبين لدعوة الله.. فإذا لم يستجيبوا بعد هذا، لم يكن لهم عذر يعتذرون به، ووقعوا تحت طائلة العقاب الذي هم أهل له.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:«لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» .. فلقد أزيلت الحواجز التي تحجز القوم عن الاستماع إلى آيات الله، حتى لقد احتمل المسلمون ما احتملوا من سفههم وتطاولهم عليهم، كى يهيئوا لهم الجوّ الصالح للاستماع، والنظر، والتأمل، فإذا كان بعد هذا ثمة حاجز يحجزهم عن الإيمان بالله، فهو من عند أنفسهم، وكان كفرهم وضلالهم من صنع أيديهم، التي حجبوا بها نور الحق عنهم..
وفى قوله تعالى:«لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» .. وفى تنكير «قوم» إشارة إلى قوم بأعيانهم، وأن أمرهم مع تنكيرهم، أظهر من أن يدلّ عليه، وأن يعرّف به.. وهؤلاء القوم، هم أولئك المشركون، الذين دعى المؤمنون إلى أن يغفروا لهم، وأن يتجاوزوا عن سيئاتهم وسفاهاتهم..
فهؤلاء القوم قد امتنّ الله سبحانه وتعالى عليهم بهذه المنة العظيمة، بفضل مقام رسول الله فيهم، فلم يعجّل الله سبحانه وتعالى لهم العذاب، بل أمهلهم إلى آخر لحظة من حياتهم، حتى تكون أمامهم فسحة من الوقت،