ليسا قيدا لعلم الله بالناس فى حالتى نشأتهم من الأرض، ووجودهم فى بطون أمهاتهم، وإنما هما ظرفان يشيران إلى هذين الوقتين اللذين يكون الإنسان فيهما، فى حال أشبه بالعدم، إذا هو نظر إلى نفسه فيهما، وقد صار كائنا عاقلا رشيدا، يخاطب من الله، ويتهيأ للدخول فى عالم الحق والنور..
وقوله تعالى:«فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ» النهى عن تزكية النفس هنا، ليس مرادا به الكفّ عن طلب ما يزكى النفس، ويطهرها، فالعمل على تزكية النفس، وتطهيرها مما يخالطها من ذنوب وآثام، هو أمر مطلوب دائما من كل إنسان يطلب الفلاح والنجاة، كما يقول سبحانه:«قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى»(١٤، ١٥: الأعلى) وكما يقول جل شأنه: «وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها، فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها»(٧- ١٠ الشمس) فالمراد بالنهى عن التزكية فى قوله تعالى: «فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ» - هو النهى عن الاطمئنان إلى النفس، وعدّها مزكّاة مطهرة، لا تحتاج إلى تزكية وتطهير..
فإن النفس التي خالصت تراب الأرض، ولبست هذا الجسد الترابي، لن تكون أبدا على حال كاملة من النقاء والطهر، بل هى دائما فى حاجة إلى زكاة وتطهير.. فلا تحسبوا أنفسكم مزكاة مطهرة.. بل هى دائما فى حاجة إلى تزكية وتطهير..
فالنهى عن تزكية النفس هنا، هو نهى عن إخلاء النفس من مشاعر الاتهام لها بالهوى، والنظر إليها نظرة لا ترفعها إلى درجة الكمال، وهذا من خداع النفس، الذي يزين المرء سوء عمله، ويريه من ذاته، أنه أوفى على غاية الإحسان..