وليس الغنى إلا غنى زين الفتى ... عشية يقرى أو غداة ينيل
وقد اختلف أقوال الناس في تفضيل الغنى والفقر مع اتفاقهم أن ما أحوج من الفقر مكروه، وما أبطر من الغنى مذموم. فذهب قوم إلى تفضيل الغنى على الفقر، لأن الغني مقتدر والفقير عاجز والقدرة أفضل من العجز. وهذا مذهب من غلب عليه حب النباهة.
وذهب آخرون إلى تفضيل الفقر على الغنى، لأن الفقير تارك والغنى ملابس، وترك الدنيا أفضل من ملابستها وهذا قول من غلب عليه حب السلامة. وقال الباقون: خير الأمر أوساطها، والفضل للاعتدال بين الفقر والغنى ليصل إلى فضيلة الأمرين، ويسلم من مذمة الحالين.
ومن كلفته النفس فوق كفافها ... فما ينقضي حتى الممات عناؤه
والحاصل أن الإنسان ما لم يكن فارغ البال لا يمكنه القيام بمصالح الدارين، ولا يكون فارغ البال إلا بواسطة المال، فبذلك يتمكن من جلب المنافع ودفع المضار ولهذا رغب الله تعالى في حفظه هاهنا. وفي آية المداينة حيث أمر بالكتاب والشهادة والرهان المقبوضة، فمن أراد الدنيا لهذا الغرض فنعمت المعونة هي، ومن أرادها لعينها فيا لها من حسرة وندامة. ثم إنه سبحانه أمر بعد ذلك بثلاثة أشياء وذلك قوله: وَارْزُقُوهُمْ فِيها وإنما لم يقل «منها» كيلا يكون أمرا بجعل بعض أموالهم رزقا لهم فيأكلها الإنفاق، بل أمر بأن يجعلوها مكانا لرزقهم بأن يتجروا فيها ويربحوها حتى تكون نفقتهم من الأرباح لا من أصول الأموال وصلبها وَاكْسُوهُمْ كل من الرزق والكسوة بحسب المصلحة وكما يليق بحال أمثالهم وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً قال ابن جريج ومجاهد: هو عدة جميلة من البر والصلة. وقال ابن عباس: هو مثل أن يقول: إذا ربحت في سفري هذا فعلت بك ما أنت أهله، وإن غنمت في غزاتي جعلت لك حظا. وقال ابن زيد: إن لم يكن ممن وجبت نفقته عليك فقل: عافانا الله وإياك وبارك الله فيك. وقال الزجاج: علموهم مع إطعامكم وكسوتكم إياهم أمر دينهم بما يتعلق بالعلم والعمل. وقال القفال: إن كان صبيا فالولي يعرّفه أن المال ماله وأنه إذا زال صباه فإن يرّد المال إليه كقوله: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ [الضحى: ٩] أي لا تعاشره بالتسلط عليه كما تعاشر العبيد وإن كان سفيها، وعظه ونصحه وحثه على الصلاة وعرفه أن عاقبة الإسراف فقر واحتياج. وبالجملة فكل ما سكنت إليه النفس وأحبته لحسنه عقلا أو شرعا من قول أو عمل فهو معروف، وما نفرت منه لقبحه فمنكر. ثم بيّن أن السفهاء متى يؤتون أموالهم فشرط في ذلك شرطين: أحدهما بلوغ النكاح والثاني إيناس