الثاني فعن الحسن: نطمسها عن الهدى ونردها بالخذلان على أدبارها أي على ضلالاتها وشبهاتها. وذلك أن المتوجه إلى عالم الحس معرض عن عالم العقل، وبقدر الإقبال على ذاك يحصل الإدبار عن هذا. وقال عبد الرحمن بن زيد: نردهم إلى حيث جاؤوا منه وهي أذرعات الشام. يريد إجلاء بني قريظة والنضير. والطمس على هذا إما تقبيح الوجوه وإما إزالة آثارهم عن ديار العرب. وقيل: الطمس القلب والتغيير. والمراد بالوجوه رؤساؤهم ووجهاؤهم أي من قبل أن نغير أحوال وجهائهم فنسلبهم إقبالهم ووجاهتهم ونكسوهم صغارهم وأدبارهم. والضمير في قوله: أَوْ نَلْعَنَهُمْ إما للوجوه إن أريد بها الوجهاء، وإما لأصحاب الوجوه لأن المعنى من قبل أن نطمس وجوه قوم، أو يرجع إلى الذين أوتوا الكتاب على طريقة الالتفات. فإن قيل: فأين وقوع الوعيد؟ فالجواب أنه مشروط بعدم إيمان جميعهم ولكنه قد آمن ناس من علمائهم كعبد الله بن سلام وأصحابه. حكي أنه لما نزلت هذه الآية أتى عبد الله بن سلام رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي أهله وأسلم وقال: يا رسول الله، ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يتحول وجهي في قفاي. وأيضا إنه ما جعل الوعيد هو الطمس بعينه بل إياه أو اللعن. فإن كان الطمس تبديل أحوال رؤسائهم أو إجلاءهم إلى الشام فقد كان أحد الأمرين، وإن كان غيره فقد حصل اللعن فإنهم ملعونون بكل لسان. واللعن الموعود ظاهره اللعن المتعارف لا المسخ. وقيل: هو منتظر ولهذا قيل: وُجُوهاً منكرة دون «وجوهكم» ليشمل وجوها غير المخاطبين من أبناء جنسهم، ولا بد من مسخ وطمس لليهود قبل يوم القيامة. وقيل: إنّ قوله: آمِنُوا تكليف متوجه عليهم في جميع مدة حياتهم فلزم أن يكون قوله: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً واقعا في الآخرة. فالتقدير: آمنوا من قبل أن يجيء الوقت الذي نطمس فيه وجوهكم وهو ما بعد الموت وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا لأنه لا راد لحكمه ولا يتعذر عليه شيء يريد أن يفعله، وهذا كما يقال في الشيء الذي لا يشك في حصوله هذا الأمر مفعول وإن لم يفعل بعد، فإذا حكم بإنزال العذاب على قوم فعل ذلك البتة. والمراد بالأمر الشأن والفعل الذي تعلق إرادته به لا الأمر الذي هو أحد أقسام الكلام، فلا يصح استدلال الجبائي بالآية على أن كلامه تعالى مفعول أي مخلوق.
ثم بين أن مثل هذا التهديد من خواص الشرك والكفر فقال: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ الآية.
وفي الآية دلالة على أن اليهودي يسمى مشركا في عرف الشرع لاتصالها بقصتهم، ولأنها دلت على أن ما سوى الشرك مغفور واليهودية غير مغفورة بالإجماع. ومن هنا قال الشافعي: المسلم لا يقتل بالذمي لأن الذمي مشرك، والمشرك المباح الدم هو الذي لا يجب القصاص على قاتله، ولا يتوجه النهي عن قتله ترك العمل بهذا الدليل في النهي فيبقى