للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كقولهم: بيني وبينه مشاركة وبيني وبينه رحم. والمعنى لقد تقطع وصلكم. قلت: ويحتمل أن يكون البين بمعنى الافتراق ويفيد المبالغة كقولهم: جد جده. فإذن العاقل من يكسب الزاد ليوم المعاد حتى لا يوبخ بقوله وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى ويصرف المال في وجوه التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله حتى لا يخاطب بقوله وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ بل يكون من زمرة وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ [المزمل:

٢٠] كيلا تطول حسرته يوم ينقطع بين النفس والجسد وصله. ثم إنه سبحانه لما فرغ من تقرير التوحيد والنبوّة والمعاد عاد إلى ذكر الدلائل الدالة على وجود الصانع وكمال قدرته لتعلم أن حاصل المباحث العقلية والنقلية إنما هو معرفة ذات الله وصفاته وأفعاله فقال إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى أي بالنبات والشجر. وعن مجاهد أراد الشقين اللذين في الحنطة والنواة، والفلق هو الشق. وعن ابن عباس والضحاك: الفلق هو الخلق. ووجه بأن العقل يتصور من العدم ظلمة متصلة لا انفراج فيها ولا انشقاق، فإخراج الشيء من العدم إلى الوجود شق لذلك العدم وفلق بحسب التخيل والتعقل. واعلم أنه إذا وقعت الحبة والنواة في الأرض الرطبة ثم مر بها قدر من المدة أظهر الله في أعلاها شقا ومن أسفلها شقا، أما العالي فيخرج منه الشجرة الصاعدة إلى الهواء، وأما السافل فإنه يخرج منه الشجرة الهابطة في الأرض وهي المسماة بعروق الشجرة، وهاهنا عجائب منها: أن طبيعة الشجرة إن كانت تقتضي الهويّ في الأرض فكيف تولدت منها الشجرة الصاعدة إلى الهواء وبالعكس.

فاتصال الشجرتين على التبادل ليس بمقتضى الطبع والخاصية بل بمقتضى إرادة الموجد المختار. ومنها أن باطن الأرض جسم صلب كثيف لا تنفذ فيه المسلة ولا السكين، ثم إنا نشاهد أطراف تلك العروق مع غاية نعومتها تقوى على النفوذ والغوص في جرم الأرض، فحصول هذه القوّة الشديدة للجرم الضعيف ليس إلا بتقدير العزيز العليم. ومنها أنه يتولد من النواة شجرة ويحصل من الشجرة أغصان وأوراق وأزهار وأثمار، وللثمر قشر أعلى وقشر أسفل وفيه اللب، وفي اللب الدهن الذي هو المقصود الأصلي فتولد هذه الأجرام المختلفة في طبائعها وصفاتها وألوانها وطعومها وأشكالها مع تساوي تأثيرات النجوم والطبائع في المادة الواحدة يدل على وجود الفاعل المختار. ومنها أنك قد تجد الطبائع الأربع حاصلة في الفاكهة الواحدة، فالأترج قشره حار يابس ولحمه بارد رطب، وحماضه بارد يابس وبزره حار يابس، وكذلك العنب قشره وعجمه بارد يابس وماؤه ولحمه حار رطب. ومنها أنك تجد أحوال الفواكه مختلفة، فبعضها يكون لبه في الداخل وقشره في الخارج كالجوز واللوز، وبعضها يكون فاكهته المطلوبة في الخارج والخشبة في الداخل كالخوخ والمشمش، وبعضها يكون لنواها لب كالخوخ وقد لا يكون كالتمر، وبعض الفواكه

<<  <  ج: ص:  >  >>