يكون كله مطلوبا كالتين. فهذه الأحوال المختلفة والأشكال المتخالفة. تتضمن حكما وفوائد لا يعلمها إلا مبدعها. ومنها أنك إذا أخذت ورقة واحدة من أوراق الشجرة وجدت في وسطها خطا واحدا مستقيما يشبه النخاع في بدن الإنسان ولا يزال يستدق حتى يخرج عن إدراك الحس، ثم ينفصل عن ذلك الخط خطوط دقاق أصغر من الأول، فكأنه سبحانه أوجد ذلك لتقوى به الجاذبة المركوزة في جرم تلك الورقة على جذب الأجزاء اللطيفة الأرضية في تلك المجاري الضيقة. فإذا وقفت على عناية الخالق في إيجاد تلك الورقة الواحدة علمت أن عنايته في إيجاد جملة تلك الشجرة أكثر، وعلمت أن عنايته بتخليق الحيوان الذي خلق النبات لأجله يكون أكمل، وكذا عنايته بحال الإنسان الذي خلق لأجله النبات والحيوان ويصير ذلك مرقاة لك إلى وجود الصانع الخبير الحكيم القدير.
ثم بين كونه فالق الحب والنوى بقوله يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ لأن فلق الحب والنوى بالنبات والشجر الناميين من جنس إخراج الحي من الميت، لأن النامي في حكم الحيوان ولهذا قال يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها [الحديد: ١٧] ثم عطف على قوله فالِقُ الْحَبِّ قوله وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ قال ابن عباس: أخرج من النطفة بشرا حيا ثم يخرج من البشر الحي نطفة، أو يخرج من البيض دجاجة ومن الدجاجة بيضا، أو يخرج المؤمن من الكافر كما في حق إبراهيم، والكافر من المؤمن كنوح وابنه، أو المطيع من العاصي والعاصي من المطيع، أو العالم من الجاهل والجاهل من العالم، أو الكامل من الناقص والناقص من الكامل، وقد يجعل الضار نافعا وبالعكس. يحكى أن إنسانا سقى الأفيون في الشراب ليموت فلما تناوله ظن القوم أنه سيموت فرفعوه وجعلوه في بيت مظلم فلدغته حية وصارت تلك اللدغة لقوّة حرارة سم الحية سببا لدفع ضرر برد الأفيون. ونقل عن عبد القاهر الجرجاني أن قوله وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ معطوف على قوله يُخْرِجُ وإنما حسن عطف الاسم على الفعل هاهنا، لأن لفظ الفعل يدل على اعتناء الفاعل بذلك الفعل في كل وقت بخلاف لفظ الاسم ولهذا قال هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ [فاطر: ٣] ليفيد أنه يرزقهم حالا فحالا وساعة فساعة إذا ثبت هذا فنقول الحي أشرف من الميت، فذكره بلفظ الفعل فيدل على أن الاعتناء بإخراج الحي من الميت أكثر من العكس ذلِكُمُ اللَّهُ المدبر الخالق النافع الضار المحيي المميت فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فكيف تصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره، أم كيف تستبعدون البعث والنشور لأن الإعادة أهون من الإبداء؟ ثم عدل عن الأحوال الأرضية إلى الاستدلال بما فوقها وهي الأحوال الفلكية فقال فالِقُ الْإِصْباحِ وهو مصدر سمي به الصبح، المراد فالق ظلمة الإصباح وهو الغبش في آخر الليل وكأن الأفق كان بحرا مملوءا