الحكم والسدي مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ يعني الدنيا لأنها بين يدي الإنسان وإنه يشاهدها وَمِنْ خَلْفِهِمْ الآخرة لأنها تأتي بعد ذلك. وأما قوله: وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ فقيل:
عَنْ أَيْمانِهِمْ في الكفر والبدعة وَعَنْ شَمائِلِهِمْ في أنواع المعاصي. وقيل: عَنْ أَيْمانِهِمْ في الصرف عن الحق وَعَنْ شَمائِلِهِمْ في الترغيب في الباطل. وقيل: عَنْ أَيْمانِهِمْ افترهم عن الحسنات وَعَنْ شَمائِلِهِمْ أقوي دواعيهم إلى السيئات قال ابن الأنباري: وهذا قول حسن لأن العرب تقول اجعلني عن يمينك أي من المقدمين ولا تجعلني عن شمالك أي من المؤخرين. وعن الأصمعي هو عندنا باليمين أي بمنزلة حسنة وبالشمال للعكس. وقال حكماء الإسلام: إن في البدن قوى أربعا هي الموجبة لفوات السعادات الروحانية: إحداها القوة الخيالية التي يجتمع فيها مثل المحسوسات وموضعها البطن المقدم من الدماغ وإليها الإشارة بقوله: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وثانيتها القوّة الوهمية التي تحكم في غير المحسوسات بالأحكام المناسبة للمحسوسات ومحلها البطن المؤخر من الدماغ وهو قوله: وَمِنْ خَلْفِهِمْ وثالثتها الشهوة ومحلها الكبد التي عن يمين البدن.
ورابعتها الغضب ومنشؤه القلب الذي هو في الشق الأيسر. فالشياطين الخارجة ما لم تستعن بشيء من هذه القوى الأربع لم تقدر على إلقاء الوسوسة. وقيل: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ الشبهات المبنية على التشبيه إما في الذات أو في الصفات كشبه المجسمة وإما في الأفعال كشبه المعتزلة في التعديل والتجويز والتحسين والتقبيح لأن الإنسان يشاهد هذه الجسمانيات فهي بين يديه وبمحضر منه فيعتقد أن الغائب مثل الشاهد وَمِنْ خَلْفِهِمْ شبهات أهل التعطيل لأن هذه بإزاء الأولى، وَعَنْ أَيْمانِهِمْ الترغيب في ترك المأمورات وَعَنْ شَمائِلِهِمْ الترغيب في فعل المنهيات. وعن شقيق رضي الله عنه ما من صباح إلّا ويأتيني الشيطان من الجهات الأربع إما من بين يدي فيقول لا تخف إن الله غفور رحيم فأقرأ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً [طه: ٨٢] وإما من خلفي فيخوفني من وقوع أولادي في الفقر فأقرأ وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هود: ٦] وإما من يميني فيأتيني من قبل النساء فأقرأ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف: ١٢٨] وإما من شمالي فيأتيني من قبل الشهوات فأقرأ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ [سبأ: ٥٤]
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه قعد له بطريق الإسلام. فقال له: تدع دين آبائك فعصاه فأسلم ثم قعد له بطريق الهجرة فقال له تدع ديارك وتتغرب فعصاه فهاجر ثم قعد له بطريق الجهاد فقال له تقاتل فتقتل فيقسم مالك وتنكح امرأتك فعصاه فقاتل»«١»
وعلى هذا فالقعود في
(١) رواه النسائي في كتاب الجهاد باب ١٩. أحمد في مسنده (٣/ ٤٨٣) .