للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الطريق والرصد من الجهات مثل الوسوسة إليهم وتسويله بكل ما يمكنه ويتيسر له كقوله:

وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ [الإسراء: ٦٤] وبقي هاهنا بحث وهو أنه تعالى كيف قال: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ بحرف الابتداء وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ بحرف المجاوزة؟ قال في الكشاف: وقد تختلف حروف الظروف كما تختلف حروف التعدية على حسب السماع. يقال: جلس عن يمينه وعلى يمينه، فمعنى «على» أنه تمكن من جهة اليمين تمكن المستعلي من المستعلى عليه، ومعنى «عن» أنه جلس متجافيا عن صاحب اليمين منحرفا عنه غير ملاصق له، ثم كثر حتى استعمل في المتجافي وغيره ونظيره في المفعول به «رميت السهم عن القوس وعلى القوس ومن القوس» لأن السهم يبعد عنها ويستعليها إذا وضع على كبدها للرمي ويبتدىء الرمي منها، وكذلك قالوا: جلس بين يديه وخلفه بمعنى في لأنهما ظرفان للفعل، ومن بين يديه ومن خلفه لأن الفعل يقع في بعض الجهتين كما تقول: جئته من الليل تريد بعض الليل. وقال بعض المفسرين: خص اليمين والشمال بكلمة «عن» لأنها تفيد البعد والمباينة وعلى جهتي اليمين والشمال ملكان لقوله: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ [ق: ١٧] والشيطان لا بد أن يتباعد عن الملك ولا كذلك حال القدام والخلف. وقالت الحكماء مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ هما الوهم والخيال كما مر والناشئ منهما العقائد الباطلة والكفر وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ الشهوة والغضب والناشئ منهما الأفعال الشهوية والغضبية. وضرر الكفر لازم لأن عقابه دائم وضرر المعاصي مفارق لأن عذابها منقطع فلهذا السبب خص هذين القسمين بكلمة «عن» تنبيها على أنهما في اللزوم والاتصال دون القسم الأول. وإنما اقتصر على الجهات الأربع ولم يذكر الفوق والتحت لأن القوى التي منها يتولد ما يوجب تفويت السعادات الروحانية هي هذه الموصوعة في الجوانب الأربعة من البدن، وأما في الظاهر

فقد روي أن الشيطان لما قال هذا الكلام رقت قلوب الملائكة على البشر فقالوا: يا إلهنا كيف يتخلص الإنسان من الشيطان مع استيلائه عليه من الجهات؟ فأوحى الله تعالى إليهم أنه قد بقي للإنسان جهتا الفوق والتحت فإذا رفع يديه إلى فوق بالدعاء على سبيل الخضوع أو وضع جبهته على الأرض بطريق الخشوع غفرت له ذنب سبعين سنة.

قال القاضي: هذا القول من إبليس كالدلالة على أنه لا يمكنه أن يدخل في بدن ابن آدم ويخالطه لأنه لو أمكنه ذلك لكان بأن يذكره في باب المغالبة أحق. قلت: هذا مناف لما

في الحديث «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» «١» .

أما قوله: وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ فسئل أنه من


(١) رواه البخاري في كتاب الأحكام باب ٨١. كتاب بدء الخلق باب ١١. أبو داود في كتاب الصوم-

<<  <  ج: ص:  >  >>